الإسلام والغرب .. الردود الأولى على رسائل النبي


يمكن لنا القول من خلال مقالات سابقة أن النظرة التي كان يحملها المسلمون عن الغرب ـالروم ـ في بداية بزوغ الإسلام، كانت تتميز بالودية، ومحاولة اللقاء على أساس العناصر المشتركة التي أكدت عليها الرسالات السماوية.
ولعل هذه الروح التي كانت سائدة بين المسلمين، هي ما جعلت ردود الفعل على رسائل النبي من المقوقس وهرقل ايجابية، حسب ما نقله المؤرخون المسلمون.
‘,’وأرى أن من الأهمية بمكان دراسة هذه الرسائل، لمن يريد فهم طبيعة العلاقة بين الإسلام كرسالة سماوية، والغرب كبقعة جغرافية ومجال حيوي حضاري، له خصائصة المميزة.
وسنرى في تفاصيل العلاقة بين الإسلام والغرب، في بدايات اللقاء أن الإسلام كان حريصا على عدم تحول هذه العلاقة إلى علاقة صراعية،يهزم فيه كل طرف الطرف الآخر،غير أن خوف السياسيين ورجال الكنيسة،في تلك اللحظة من تمدد الإسلام في مناطق نفوذهم،دفعهم تحت تحريض بعض الإمارات العربية،للمجابهة مع الدين الجديد ودولته الوليدة.رغم أن ردودهم الأولى على رسائل النبي (ص) اتسمت بالايجابية، حسب ما نجده في مصادر تاريخية.
ذكر صاحب مكاتيب الرسول:كان حامل رسالة رسول الله (ص) إلى القيصر رجل اسمه \”دحية الكلبي “. وتهيا السفير للانطلاق نحو ارض الروم. ولكنه قبل أن يصل القسطنطينية، عاصمة القيصر، علم أن القيصر قد يمم شطر بيت المقدس للزيارة. فاتصل بحاكم \”بصرى\” الحارث بن أبي شمر وكشف له عن مهمته. ويبدو أن رسول الله (ص) كان قد أجاز دفع الرسالة إلى حاكم (بصرى) ليوصلها هذا إلى القيصر.
بعد أن اطلع الحاكم على الأمر، استدعى عدي بن حاتم وكلفه أن يسافر مع دحية إلى بيت المقدس ليوصل الرسالة إلى القيصر. التقى السفير قيصر في حمص. وكانت الحاشية قبل ذلك قد افهموا دحية أن عليه أن يسجد أمام القيصر، وان لا يرفع رأسه أبدا حتى يأذن له . فقال دحية: لا افعل هذا أبدا، ولا اسجد لغير الله.فأعجبوا بمنطقه المتين . وقال له احد رجال البلاط: إذا لك أن تضع الرسالة تجاه منبر قيصر وتنصرف، إن أحدا غير القيصر لا يمسها. فشكره دحية على ذلك، وترك الرسالة في ذلك المكان، وانصرف.
فتح قيصر الرسالة، وجلب انتباهه افتتاحها باسم الله، وقال: أنا لم أر رسالة مثل هذه غير رسالة سليمان. ثم طلب مترجمه ليقرا له الرسالة ويترجمها. احتمل قيصر أن يكون كاتب الرسالة هو النبي الموعود في التوراة والإنجيل. فعزم على معرفة دقائق حياة هذا النبي. فأمر بالبحث في الشام لعلهم يعثرون على من يعرف شيئا عن محمد (ص) . واتفق أن كان أبو سفيان وجمع من قريش قد قدموا إلى الشام – التي كانت الجناح الشرقي للروم – للتجارة، فاتصل بهم رجال القيصر وأخذوهم إلى بيت المقدس، فسألهم القيصر: ايكم اقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم انه نبي ؟ فقال أبو سفيان : أنا .
ثم قال القيصر للقرشيين – عن طريق ترجمانه -: إني سائل (أبا سفيان) عن هذا الرجل الذي يزعم انه نبي. فان كذبني فكذبوه.
ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم ؟
أبو سفيان: هو فينا ذو حسب.
القيصر: هل كان من آبائه ملك ؟
أبو سفيان: لا.
القيصر: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يقول ؟
أبو سفيان: لا.
القيصر: من يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟
أبو سفيان: بل ضعفاؤهم.
القيصر: أيزيدون أم ينقصون ؟
أبو سفيان : بل يزيدون .
القيصر: هل يرتد احد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟
أبو سفيان : لا .
القيصر: فهل قاتلتموه ؟
أبو سفيان : نعم .. ثم استمر الحوار بين الاثنين عن موقف قريش من النبي (ص) وعن سجاياه ثم قال القيصر :
إن يكن ما تقول حقا فانه نبي ، وقد كنت اعلم انه خارج ، ولم أكن اظنه منكم ، ولو اعلم أني اخلص إليه لاحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه – حسب تقاليد الاحترام يومئذ – وليبلغن ملكه ما تحت قدمي ، ثم دعا بكتاب رسول الله فقرأه\”.(1)
ويحدثنا الطبري في إحدى رواياته أن هرقل لما وصل إليه كتاب الرسول وهو بالشام يريد العودة إلى القسطنطينية… جمع الروم فقال لهم : \”يا معشر الروم ! إني عارض عليكم أمورا فانظروا فيما قد أردناه . قالوا: ما هي ؟ قال تعلمون والله أن هذا الرجل لنبي مرسل ، إنا نجده في كتابنا نعرفه بصفته التي وصف لنا . فهلم فلنتبعه فتسلم لنا دنيانا وأخرتنا . فقالوا : نحن نكون تحت يدي العرب ونحن أعظم ملكا وأكثرهم رجالا وأفضلهم بلدا ؟ قال: فهلم فأعطيه الجزية في كل سنة اكسر عني شوكته وأستريح من حربه بما أعطيه إياه، قالوا: نحن نعطي العرب الذل والصغار بخراج يأخذونه منا ، ونحن أكثر الناس عددا وأعظمهم ملكا وامنعهم بلدا ؟ لا والله لانفعل هذا أبدا قال فهلم فلأصالحه على أن أعطيه ارض سورية ويدعني ارض الشام . فقالوا له: نحن نعطيه ارض سورية وقد عرفت أنها سرة الشام ؟ والله لانفعل هذا أبدا . فلما أبوا عليه قال : أما والله لترون أنكم قد ظفرتم اذ امتنعتم منه في مدينتكم . ثم جلس على بغل له فانطلق، حتى إذا اشرف على الدرب استقبل ارض الشام ثم قال : السلام عليكم ارض سورية تسليم الوداع ، ثم ركض حتى دخل القسطنطينية .\”.(2)
وتشير روايات تاريخية:أن هرقل وكبير أساقفته المدعو \”صغاطر\” لما اطلعا على الكتاب قالا انه للنبي الذي كنا ننتظره،لاشك فيه،نعرفه بصفته ونجده في كتبنا باسمه.وان صغاطر خرج على الروم وهم في الكنيسة فقال:يا معشر الروم، انه قد جاءنا كتاب من احمد، يدعونا فيه إلى الله عز وجل، واني اشهد أن لا اله إلا الله وان احمد عبده ورسوله،فوثبوا عليه وثبة رجل واحد وضربوه حتى قتلوه.فلما عرف هرقل الخبر تنازل عن أقواله وقال:إنا نخافهم على أنفسنا!صغاطر والله كان أعظم عندهم وأجوز قولا مني. (3)
ويورد اليعقوبي صيغة الرسالة الجوابية التي بعث بها هرقل إلى النبي(ص)وجاء فيها:
\”إلى احمد رسول الله الذي بشر به عيسى.من قيصر ملك الروم.انه جاءني كتابك مع رسولك واني اشهد انك رسول الله،نجدك عندنا في الإنجيل،بشرنا بك عيسى بن مريم،واني دعوت الروم أن يؤمنوا بك فأبوا،ولو أطاعوني لكان خيرا لهم …\”. (4)
ورغم تشكيك مؤرخين معاصرين في الروايات التي تشير إلى قبول هرقل بالإسلام أو حتى تعاطفه مع النبي من منطلق ديني،إلا أن شبه إجماع لدى المؤرخين المسلمين متقدمين ومتأخرين أن هرقل أكرم رسول النبي،وأجاب بطريقة دبلوماسية مرنة،بانتظار تطور الأوضاع بالنسبة للدولة الإسلامية الجديدة.
أما المقوقس فقد حمل له رسالة النبي(ص) حاطب بن ابي بلتعة،فلما سلمه الرسالة،قال لحاطب:ما منعه إن كان نبيا أن يدعو على من خالفه واخرجه من بلده الى غيرها ان يسلط عليهم ؟
فقال له حاطب:ألست تشهد أن عيسى بن مريم رسول الله؟فماله حيث أخذه قومه،فأرادوا أن يقتلوه،أن لا يكون دعا عليهم،أن يهلكهم الله تعالى،حتى رفعه الله اليه؟.
قال:أحسنت أنت حكيم من عند حكيم.
ثم قال له حاطب…انه هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهماالصلاة و السلام، إلا كبشارة عيسى بمحمد (ص)وما دعاؤنا إياك إلى القرآن، إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوما فهم أمته،فالحق عليهم أن يطيعوه،فأنت ممن أدرك هذا النبي،ولسنا ننهاك عن دين المسيح بل نأمرك به.
بقي حاطب بن أبي بلتعة أياما ينتظر جواب المقوقس على رسالة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وبعدها استدعاه المقوقس إلى قصره واستزاده معرفة بالإسلام وقال له: إلى ما يدعو محمد؟
قال حاطب: إلى أن نعبد الله وحده، ويأمر بالصلاة، خمس صلوات في اليوم والليلة، ويأمر بصيام رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهي عن أكل الميتة ، والدم .. ثم شرح له بعض جوانب حياة النبي صلى الله عليه واله وسلم.
فقال المقوقس: هذه صفته، وكنت اعلم أن نبيا قد بقي، وكنت أظن أن مخرجه بالشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج من ارض العرب .
ثم دعا كاتبه الذي يكتب له بالعربية فكتب إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم :
\” بسم الله الرحمن الرحيم ، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط ، سلام عليك . أما بعد ، فقد قرأت كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه ، وقد علمت إن نبيا قد بقي ، وقد كنت أظن انه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك … \” .
ثم عدد له الهدايا التي بعثها إليه وختم رسالته بعبارة \” والسلام عليك \”(5)
وهنا لابد من القول أن المؤرخين الغربين الذين انكروا أن يكون النبي(ص) قد راسل ملك الإمبراطورية الغربية وأمراءها لعدم عثورهم على الرسائل التي يذكرها المؤرخون المسلمون، لايمكن لهم بحال أن ينكروا الهدايا التي بعثها المقوقس إلى النبي(ص)ردا على الرسالة التي بعثها إليه.خاصة وان مع هذه الهدايا ماريا القبطية التي أصبحت إحدى زوجات النبي (ص) وقد أنجبت له ابنه إبراهيم،والمقوقس هذا هو كيروس حاكم مصر الروماني.ومما يؤيد هذه الحقيقة أن السفير النبوي قصد الإسكندرية ليؤدي مهمته، وقد كانت الإسكندرية يومئذ مقر الحاكم الروماني. (6)
وعلى العكس من ردي هرقل والمقوقس، جاء رد أمير دمشق من قبل هرقل المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني في غاية الصلف والتحدي، فقد فهم من الرسالة تهديدا له بزوال ملكه، فكان جوابه:\”من ينزع مني ملكي؟أنا سائر إليه ولوكان باليمن\”وأمر بإعداد الخيول، ثم قال اخبر صاحبك ما ترى، كما كتب إلى قيصر يطلعه على ما جرى وما اعتزم عمله، فكتب إليه قيصر ألا تسير إليه، واله عنه.ووافني بايلياء. (7)
والحق أن هذا ليس مجرد رد على رسالة النبي(ص) من قبل أمير دمشق، بل هو تأسيس لحالة صراعية بين الغرب والإسلام، قلبت التصور الايجابي عند الطرفين عن بعضيهما، فالموقف الذي ظهر في الرسائل الجوابية على النبي(ص)، وموقف المسلمين الايجابي الذي اصل له الذكر الحكيم في مطلع سورة الروم، عمل أمير دمشق، وبالتحالف مع منافقين في المدينة _ كما سيتبن في مقال قادم _ على تغييره باستثارة مخاوف الغرب من الدين الجديد، والدولة الفتية، فانقلب الود إلى خصومة، ومحاولات اللقاء إلى صراع طويل لم نزل إلى اليوم نتأثر به.والحاجة تتعاظم مع مرور الأيام للتوصل إلى حلول تعيد الوضع إلى ما أسس له النبي (ص)،وأصل له القرآن الكريم.

المصادر
(1) الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم، الامثل ج2 ص407ـ408، مؤسسة البعثة، بيروت 1992م.
(2) حسن، الدكتور حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام ج1 ص163.مكتبة النهضة المصرية، الطبعة السادسة، القاهرة 1964.
(3) خليل، الدكتور عماد الدين، دراسة في السيرةص287.
(4) المصدر ص288
(5) الامثل ج2،مرجع مذكور، نقلا عن مكاتيب الرسول ج1ص100.
(6) دراسة في السيرةص292.مرجع مذكور.
(7) المصدرص289.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *