كشفت التجربة الدنمركية عن حاجة ماسة لتصحيح القادة الدينيين لقراءتهم للمجتمعات الغربية، فبعد دفع مستميت لمقاطعة أي دنمركي ولو كان مجرد اسم، اضطر قادة دينيون في مملكة البحرين للدفاع عن منتج بحريني يحمل اسم الدنمرك، ثم بعد ذلك خرج مؤتمر نصرة الرسول في احد قراراته بالتراجع الجزئي عن المقاطعة لصالح شركة ارلا الدنمركية، بل ساهم المؤتمر في الدعاية لمنتجات هذه الشركة، إذ التزكية الدينية، تضفي على الأشياء مسحة من القداسة، كما ألتبري قد يحول المقدس إلى مدنس.
‘,’منذ زمن وكان هناك مجموعة من المفكرين العرب يدعون إلى قراءة علمية للغرب، بل إلى تأسيس علم جديد باسم الاستغراب، على غرار الاستشراق، وهو ما دفع الدكتور حسن حنفي لإصدار كتاب ضخم تحت عنوان الاستغراب، يؤسس فيه قواعد لفهم علمي للغرب، كما صنع الغرب حين درس الشرق دراسة علمية.واستطاع بعد ذلك الهيمنة عليه.
القادة الدينيون ملزمون بالتحري والدقة فيما يتزعمونه من قرارات وبرامج تحرك الجماهير المؤمنة، وهم يعلمون جيدا أن تبعات الحراك الجماهيري ملحقة بذممهم الشرعية، وأن براءة ذممهم تحتاج إلى إفراغ الوسع في البحث عن الحقائق العلمية، ليطمئنوا أن قراراتهم مطابقة للواقع الذي يريده الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم (ص).
في التجربة الدنمركية نزلت الجماهير للشوارع، وقاطعت كل ما هو دنمركي، وحرقت الأعلام الدنمركية و أكثر من سفارة وهو ما آلم الدنمركيين كثيرا، وذهبت أرواح بهذا الصدد، وأصبح كل ما له علاقة بالدنمرك مهددا في البلدان الإسلامية، واضطرت الدنمرك لسحب ممثليها الدبلوماسيين هنا وهناك، وأوعزت لمواطنيها بترك بعض البلدان إلا للضرورة القصوى.
كل ذلك حدث والتصور العام، أن ما نقوم به دفاعا عن النبي (ص)، وأن النبي سيسر منا لو عرضت عليه أعمالنا، وأننا قد ابرأنا ذمتنا بهذه الطريقة، غير أننا تراجعنا بعد ذلك، ورأينا أن تعميمنا لم يكن دقيقا، وغير الدقيق لا يطابق الواقع الذي أراده الله سبحانه وتعالى، وهو بالطبع غير مبرئ للذمة، لقد نبهتنا شركة ألبان بحرينية دنمركية إلى عدم دقتنا، ثم نبهتنا شركة ارلا، وبالتأكيد هنالك جهات أخرى في الدنمرك نبهت إلى أضرار غير اقتصادية، وأدانت الإساءة للنبي (ص) بأعظم من شركة أرلا، إلا أن أحدا لم يسمعها.لأنها لم تتكلم بلغتنا.
قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان المسلمون، في الدنمرك، من الدنمركيين والوافدين، يعملون من اجل الاعتراف الرسمي بالإسلام، وقد كان التفاعل مع هذا التحرك ايجابيا، وكانت الحكومة آنذاك للحزب الديمقراطي الاجتماعي، الحزب الأكثر تفهما لقضايا الأجانب في الدنمرك، لكن أحداث 11 سبتمبر، رجحت فوز حزب اليسار بفارق نقطتين فقط، هذا الحزب الذي يرأسه رئيس الوزراء الحالي، فوك راسموسن، تحالف مع اليمين المتطرف الذي من أهم تياراته حزب الشعب الدنمركي بقيادة المراة المعادية للمسلمين\”بيا كاسكو\”، وبذلك تضاءلت آمال المسلمين في الدنمرك بالاعتراف الرسمي بالإسلام كدين وأتباعه مكونين أساسين في المجتمع الدنمركي.
لكن الذي حدث على الصعيد الشعبي أن أعداد المسلمين ارتفع ضمن العدد الشبه ثابت للدنمركيين (خمسة ملايين ونصف)، فبعد أن كان عددهم 150 ألف نسمة قبل أربع سنوات أصبحوا اليوم 175 ألف نسمة وهي أعداد، تبعث على القلق لدى الأحزاب المتطرفة، ومن الطبيعي أن تعمل باتجاه تنفير المجتمع الدنمركي من الإسلام.
ضمن هذا السياق، جاءت الإساءة للنبي الكريم (ص)، وبدفع من جهات خارجية تلتقي مع التيار اليميني المتطرف في الدنمرك، وقد أشار خبير أكاديمي على صحيفة يولند بوستن بعدم نشر الكاريكاتير المسيء للنبي(ص)، غير أن الإغراء الموجه للصحيفة كان أكبر من قيمة هذه الاستشارة العلمية.
في الدنمرك كما في أي مجتمع غربي أخر تيارات عاقلة، يمكن لها أن تساهم بشكل كبير في تغيير الصورة النمطية عن الإسلام، لكن هذه التيارات تحتاج إلى تيارات عاقلة مقابلة من الجهة الإسلامية، تيارات تتفهم أن الدنمرك وكذلك الغرب ليس حالة واحدة، وابرز ما يتميز به العقلاء التوسل بالعلم في التعرف على الأخر والتسليم للحقائق التي تتمثل في الوقائع والأرقام.
وحين يجد العقلاء، أن الذي يقابلهم يستعمل لغة التعميم من دون استقصاء، حينها سيعطون بعض الحق للتطرف وان كانوا ضده، وهذا ما لوحظ في مواقف بعض الجهات الدنمركية العاقلة بعد أن شاهدوا أعلامهم وسفارات بلدهم تحرق.
تعالوا ندرس التجربة الدنمركية من جديد!!