الحرية عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)


بسم الله الرحمن الرحيم

أشار حكم قانوني يوم الجمعة الماضي (11/7/2008م)، إلى أن فرنسا رفضت منح الجنسية لامرأة مغربية منقبة على أساس أن مفاهيمها\”المتشددة\”للإسلام لا تتماشى مع المعايير الفرنسية الأساسية مثل المساواة بين الجنسين.

وذكرت صحيفة \”لوموند\”أن هذه المرة الأولى التي يرفض فيها طلب احد المسلمين لأسباب تتعلق بالممارسات الدينية الشخصية، حسب حكم أصدره مجلس الدولة الشهر الماضي، ومجلس الدولة هيئة قضائية لها القول النهائي في النزاعات بين الأفراد والإدارة العامة،والمرأة متزوجة من فرنسي ووصلت إلى فرنسا عام 2000 وتتحدث الفرنسية بطلاقة ولها ثلاثة أبناء ولدوا في فرنسا.

هذه القضية ستشعل من جديد النقاش بشان كيفية التوفيق بين حرية الديانة التي ينص عليها الدستور الفرنسي، والحقوق الأساسية الأخرى التي يشعر الفرنسيون أن طريقة حياة بعض المسلمين لا تتماشى معها.

هذه قضية حديثة من قضايا الجدل الواسع الذي يدور عادة عن الحرية في الكثير من المجتمعات الإنسانية، أردتها أن تكون مدخلا لموضوعنا في هذه المحاضرة التي عنوانها\”الحرية عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام\”.

تعتبر مشكلة الحرية من أقدم المشكلات الفلسفية وأدقها، فقد واجهت الباحثين من قديم الزمان، وما برحت تؤرق مفكري اليوم كما أرقت من قبل فلاسفة اليونان وغيرهم،ولا توجد مرحلة في الفكر البشري لم تطرح فيه مشكلة الحرية على بساط البحث،وتتحول إلى مشكلة عويصة تتباين فيها الآراء ووجهات النظر.

ومشكلة الحرية بالذات هي من أكثر المسائل الفلسفية اتصالا بالعلم والأخلاق والاجتماع والسياسة، والوجود الإنساني برمته، فضلا عن صلتها الواضحة بمشاكل ما بعد الطبيعة على حد تعبير الفلاسفة.

مفهوم الحرية

عادة ما نعني بالحرية تلك الملكة الخاصة التي تميز الكائن البشري الناطق، من حيث هو موجود عاقل يصدر في لفعاله عن إرادته هو ،لا عن أية إرادة أخرى غريبة عنه،وهي بحسب معناها الاشتقاقي انعدام القسر الخارجي ،والإنسان الحر بهذا المعنى هو من لم يكن عبدا أو أسيرا.

وقد اصطلح التقليد الفلسفي على تعريف الحرية بأنها اختيار الفعل عن روية مع استطاعة عدم اختياره أو استطاعة اختيار ضده.

لكن الرجوع إلى المعاجم الفلسفية نجد فيها أن كلمة \”حرية\” تحتمل من المعني مالا حصر له، بحيث قد يكون من المستحيل أن نقبل تعريفا واحدا باعتباره تعريفا عاما يصدق على سائر صور الحرية.

وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم الحرية يتوقف كثيرا على الحد المقابل الذي تثيره في الأذهان هذه الكلمة، فقد تقابلها لفظة الضرورة أو الحتمية أو القضاء والقدر أو الطبيعة.

وحسب النظريات الفلسفية فان هناك أربعة مفهومات للحرية

1/حرية الاختيار القائمة على الإرادة المطلقة:

أو حرية استواء الطرفين، وهذا النوع من الحرية هو الذي يتبادر إلى أذهاننا جميعا حين نتصور أننا أحرار.

2/الحرية الأخلاقية،أو حرية الاستقلال الذاتي:

وهذا النوع من الحرية هو الذي فيه نصمم ونعمل بعد تدبر وروية بحيث تجئ أفعالنا وليدة معرفة وتأمل،فالفعل الحر بهذا المعنى هو الفعل الصادر عن روية وتدبر وتعقل.

3/حرية الحكيم أو حرية الكمال:

وهو وثيق الصلة بالنوع السابق ولكنه ذو طابع معياري مثالي، يجعله أكثر سموا وشرفا، وحرية الكمال هي الصفة التي تميز ذلك الحكيم الذي استطاع أن يتحرر من كل شر، ومن كل كراهية ومن كل رغبة، حرية التحرر من عبودية الأهواء والغرائز والجهل.

4/الحرية السيكولوجية أو النفسية:

وهي حرية الفعل التلقائي الذي يعبر عن شخصياتنا، منبعثا من أعمق أعماق ذاتنا، ويذهب أنصار هذا الرأي مثل برجسون وفوبيه إلى أن الحرية تقوم على فكرة العمومية الشعورية، وهنا الحرية تكون بمثابة تلقائية روحية تعبر عن قدرتنا على الخلق أو الإبداع.

أقوال الإمام علي عن الحرية

قال علي عليه السلام:\”أيها الناس إن ادم لم يلد عبدا ولا امة وان الناس كلهم أحرار..\”

وقال عليه السلام أيضا:\”لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا\”

وقال سلام الله عليه:\”لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حرا\”

ويقول أيضا:\”الحر حر ولو مسه الضر، والعبد عبد وان ساعده القدر\”

ويقول صلوات الله وسلامه عليه:\”الحرية منزهة من الغل والمكر\”

ويقول أيضا:\”من ترك الشهوات كان حرا\”

ويقول أيضا:\”العبد حر إن قنع، الحر عبد ما طمع\”

ويقول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام:\”من قام بشرائط الحرية أهل للعتق، ومن قصر عن أحكام الحرية أعيد للرق\”

ويقول أيضا:\”من زهد في الدنيا اعتق نفسه وأرضى ربه\”

ويقول عليه السلام:\”من أوحش الناس تبرأ من الحرية\”

ويمكن لنا من خلال هذه الأقوال الشريفة للإمام علي عليه السلام أن نكشف عن رؤيته في مسالة الحرية، والتي ترينا أنها متقدمة على ما ذكره الفلاسفة وتنظر إلى أبعاد لم ينظروا إليها:

1/الحرية اصل إنساني، فكل إنسان يولد حرا، وهو ما يستدعي عدم التسلط عليه وإلغاء إرادته، وهذا اصل يدين كل أشكال الاستبداد والاستعباد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويمكن لنا من خلال هذا الأصل التأكيد على أن تفجير الطاقات الكامنة بداخل الإنسان تعتمد بشكل كبير على عودته لأصل خلقه وهو حر كريم، فكلما تمتع الإنسان بحرية في ممارسه أنشطته وفاعلياته في هذه الحياة كلما زادت قدرته على الإبداع، على العكس من ذلك فان التسلط عليه يفقده – بنسبة التسلط -القدرة على الإبداع، وهذا ما هو واضح لكل ذي عينين اليوم، ونحن نرى الأثر الواضح لهذا القانون الإنساني على مختلف الشعوب.

2/أنت من يقرر حرية نفسك وليس الآخرون، ودائما ستجد في الحياة من يسعى للنيل من حريتك ولو بنسبة، لذلك عليك أنت قبل غير أن تنتبه لهذه الحرية، وان تقرر أنت ماذا تريد وكيف تريد،ومع من تحقق ما تريد،وهنا لنا أن نتفق مع جورج جرداق ،في تعرضه للفرق بين كلمة الإمام علي عليه السلام:\”لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا\”وكلمة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب التي يقول فيها:\”متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احرارأ\”حيث أن الإمام وجه كلمته مباشرة للإنسان بينما الثانية وجه فيها الخطاب لمن يسلب الحرية من الآخرين،وفي حالة استرداد الحرية لا يمكن أن تحدث إلا إذا قرر الإنسان نفسه ذلك،أما الآخرون فهم لا يهبون للناس حرية ولا يقدرون على سلبها منهم،إذا لم يريد الناس أنفسهم.

3/ليس الآخرون فقط هم الذين يمكن لهم استنقاص حرية الإنسان، بل الإنسان نفسه قد يعمل على استنقاص حريته، وذلك حين يتبع الرغبات النفسية الغير سوية كالطمع والجشع، والتكبر، أو الأمراض النفسية، والتي منها الغل والمكر، بل أن الانسان قد يكون عبدا حقيرا لشهوته، فتراه يستسلم لها ويترك اثمن ما أعطاه الله سبحانه وتعالى.

4/إن الحرية بحاجة إلى برنامج صارم يفرضه الانسان على نفسه، لان الطبيعة الأولى للنفس قد تقوده إلى الجهل والجهل استنقاص للحرية، أو قد تقوده لإتباع الشهوات وهو استنقاص للحرية أيضا، أو قد تقوده للظلم والتعدي على حقوق الآخرين وهو أيضا استنقاص للحرية،بل يفهم من كلمات أمير المؤمنين عليه السلام،أن البعض من الناس يمكن لنا تقدير درجة الحرية عندهم من خلال سلوكهم الظاهري\”من أوحش الناس تبرأ من الحرية\”

5/هناك علاقة بين الحرية والعبادة، بل أن العبادة الحقة والخضوع لله سبحانه وتعالى من صميم الحرية، ففي الوارد عن أمير المؤمنين(ع) انه قال:\”الهي ما عبدتك إذ عبدك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك وإنما وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك\”

والرواية في ألفاظ أخرى، عن علي عليه السلام أو عن احد أولاده:\”أن قوما عبدوا الله خوفا من ناره فتلك عبادة العبيد، وان قوما عبدوا الله طمعا في جنته فتلك عبادة التجار، وان قوما عبدوا الله معرفة له فتلك عبادة الأحرار\”

وهذا ما يكشف لنا أن الإمام سلام الله عليه يرى أن قمة الحرية تتمثل في قمة العبودية لله سبحانه وتعالى.

الحرية الدينية

يقول تعالى :\”الله لا اله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات و الأرض و لا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم،لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ،الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون\”
في سياق آيات عظيمة تؤكد عظمة الله و مالكيته للكون، وكونه حيا قيوما، لا يغفل للحظة زمن، مع تأكيد على مصير المؤمنين النير، ومصير الكافرين المظلم، يؤكد سبحانه وتعالى على مبدأ الحرية الدينية .
\”لا إكراه في الدين\”
وهذا إعلان صريح وواضح من حرية الاعتقاد، يقول العلامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية:\”لا إكراه في الدين\”: ان كانت قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين، انتج حكما دينيا ينفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وان كان حكما إنشائيا تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله \”قد تبين الرشد من الغي\” كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد و الإيمان كرها، وهو نهي متك على حقيقة تكوينية، وهي.. ان الإكراه إنما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية. الميزان ج2ص342.

وقد جاء في أسباب نزول هذه الآية ،روايتان :
1/كانت النضير أرضعت رجالا من الاوس، فلما أمر النبي(ص) بإجلائهم قال أبناؤهم من الاوس:لنذهبن ولندين دينهم، فمنعهم أهلوهم واكرهوهم على الاسلام، ففيهم نزلت هذه الآية.

2/نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي (ص) ألا استكرههما فانهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فانزل الله فيه ذلك.

و إننا نرى ان التعبير القرآني جاء في صورة النفي المطلق للإكراه، وهو ما يسميه النحويون بنفي الجنس، نفي جنس الإكراه، أي نوع من الإكراه، وهو اعمق إيقاعا و أكد دلالة.
كما ان هنالك آيات أخرى تعزز الحرية الدينية بصف هذه الآية :
يقول تعالى:\”انا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا\”
\”ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين\” يونس/99.
ويقول تعالى أيضا :
\”فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر\” الغاشية /21،22
\”وقل الحق من ربك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر\” الكهف /29
ويقول أيضا:
\”نحن اعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد\”
إذن..اذا الله سبحانه وتعالى يجعل الناس أحرارا في اختيار الإيمان به، أترى يرضى لهم بعد ذلك ان يكونوا غير أحرار في دنياهم، كأن يكونوا اسراء لإنسان ما أو فكرة ما أو ظرف ما؟
ان روح الدين تؤكد ان الإنسان حر في اختيار الدين وهو اكثر حرية حينما يصبح متدينا، بل ان الدين يعالج انحراف مدعي التدين بدعوته للعودة للحرية. وهذا يعني بشكل واضح ان الإنسان حينما يختار حريته فانه لن يرى حريته خلاف الحق، والدين لا يجانب الحق، بل يدعوا إليه .
ان الكثير من تمددات الاختلافات في واقعنا وتحولها الى صراعات شرسة، راجعة بالدرجة الأولى لتنازل قطيع من الناس عن حرياتهم، و إعطاء عقولهم إجازة في قبال الانقياد لفكرة ما أو إنسان ما أو رغبة ما، ولربما لم تكن الفكرة أو الإنسان أو حتى الرغبة، تروم هذا التضخم من الاختلاف وتحوله الى صراع مرير.
يقول الإمام علي عليه السلام:
\”إنما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع و أقوال تتبع فيتبع رجال رجالا..\”

وهنا سؤال يفرض نفسه، ما الذي يجعل الإنسان يتنازل عن حريته ؟
والجواب: قد يتنازل الإنسان عن حريته، طلبا لخير يرغب فيه أو درأ لشر يخاف منه، فقد يرغب الإنسان في مال أو جاه أو سلطان أو حماية، وقد يخاف فقدان شيء من ذلك أو حتى فقدان حياته .
جيء بامرأة للخليفة الثاني عمر ابن الحطاب شهد عليها جماعة بالزنى و أراد إقامة الحد عليها لكنها طلبت الاستئناف وان يقضي في أمرها الإمام علي عليه السلام، ولما وقفت بين يديه أخبرته أنها تاهت في الصحراء وكاد العطش ان يقضي عليها فاستسقت الفاعل ماء لكنه أبى إلا ان تمكنه من نفسها فرفضت حتى أشرفت على الموت، حينها وافقت على شرطه. فاستثناها الإمام علي عليه السلام من الحد، ورأى أنها ممن تنطبق عليه حالة الاضطرار.
قد يضطر الإنسان للتنازل عن حريته لبعض الوقت، للحفاظ على ما هو أهم منها وهي الحياة، وسوى ذلك لاشيء اثمن بالنسبة للإنسان من حريته .
ومن أسوء حالات التنازل عن الحرية، هروب المرء من تقرير علاقاته مع الناس و الأفكار والرغبات بنفسه، و ايكال تلك المهمة لآخرين أو للظروف، وهذه الحالة بالذات هي ما نعانيه في أوساطنا .
وان العلاج الأنجع للعودة للحق والخروج من شرنقة الاختلافات، العودة للحرية، فطالما كان الإنسان أسيرا فانه لن يستطيع التوصل للحقيقة. ألم يقل أبو عبد الله الحسين عليه السلام لأعدائه ظهر عاشوراء وبعد ان رأى ان القوم لا يعرفون الدين الذي يعرفه :
\”ان لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم\”
ذلك لان الحرية تأبى على صاحبها ان يكون بصف الباطل.

هنا قد يبدر سؤال أخر، اذا كان الإنسان حرا، أفلا يتناقض ذلك مع الخضوع لأية قيادة بما في ذلك القيادة الدينية المتمثلة في النبي أو الإمام المعصوم أو الإمام الفقيه ؟
والحق ان الإنسان حر في اختيار الدين الذي يؤمن به، وحينما يختار الدين الذي جاء من الله \”الاسلام\” فانه بحريته اختار طريقة الخضوع، فتصبح حريته في خضوعه لا تمرده، بلى هو رقيب على القيادة التي يتبعها في قيادته في خط الولاية لله.