في الليلة الرابعة من شهر محرم الحرام،تعرض فضيلة الشيخ عبد المجيد العصفور،لتحليل الوصية الخالدة التي خلفها الامام الحسين عليه السلام في المدينة المنورة لاخيه محمد بن الحنفية،حينما اراد تركها قاصدا بيت الله الحرام،وقال:ان هذه الوصية تعد من ابرز الوثائق التي تكشف عن العمق القيادي المتفرد في شخصية الامام الحسين عليه السلام.
وقد ابتدأ سماحة الشيخ حديثه عن المواقف المعارضة لنهضة الامام.
‘,’
حيث قال:
حينما اعلن الامام الحسين عليه السلام عن رفضه لبيعة يزيد ابن معاوية وقرر النزوح من المدينة اعترض عليه كثيرون ومنهم مقربون منه،خوفا على مصيره وتعرضه للخطر،فالمراجعة التاريخية تكشف لنا عن هذه المواقف:
1/موقف اخيه عمر الاطرف
فقد قال له عمر الاطرف:حدثني ابو محمد الحسن عن ابيه امير المؤمنين،انك مقتول فلو بايعت لكان خيرا لك.
فرد عليه الامام الحسين عليه السلام بعلمه بذلك عن رسول الله (ص)،وقال له:اني لا اعطي الدنية من نفسي ابدا ولتلقين فاطمة اباها شاكية مما لقيت ذريتها من امته ولا يدخل الجنة من آذاها في ذريتها.
وهنا لابد من تسجيل ملاحظة وهي:ان عمر الاطرف هو الوحيد من البيت العلوي من اشار على الامام بمبايعة يزيد بن معاوية.
2/ موقف محمد ابن الحنفية:
قال للامام الحسين عليه السلام:تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية عن الامصار ما استطعت ثم ابعث برسلك الى الناس فان بايعوك حمدت الله على ذلك وان اجتمعوا على غيرك لم ينقص بذلك دينك ولا عقلك ولم تذهب مروءتك،واني اخاف عليك ان تدخل مصرا من هذه الامصار فيختلف الناس بينهم فطائفة معك واخرى عليك فيتقتتلون فتكون لأول الاسنة غرضا فاذا خير هذه الامة كلها نفسا وابا واما اضيعها دما واذلها اهلا.
فقال له الامام الحسين عليه السلام فاين اذهب؟قال:تنزل مكة فان اطمانت بك الدار والا لحقت بالرمال وشعب الجبال وخرجت من بلد الى آخر حتى تنظر ما يصير اليه امر الناس فانك اصوب ما تكون رأيا واحزمه عملا حتى تستقبل الامور استقبالا ولا تكون الامور ابدا اشكل عليك منها حين تستدبرها استدبارا.
فقال الحسين عليه السلام:يا اخي لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد ابن معاوية.
فقطع محمد كلامه بالبكاء،فقال له الامام الحسين بعد ان جزاه خيرا على نصيحته:اني عازم على الخروج الى مكة وقد تهيأت لذلك انا واخوتي وبنو اخي وشيعتي امرهم امري ورايهم رأي.واما انت فلا عليك ان تقيم بالمدينة فتكون لي عينا عليهم لا تخفي عني شيئا من امورهم.
3/موقف ام سلمة
قالت –لا تحزني بخروجك الى العراق فاني سمعت جدك رسول الله يقول يقتل ولدي الحسين بارض العراق في ارض يقال لها كربلاء وعندي تربة من تربتك في قارورة دفعها الي رسول الله(ص)
فقال له الامام:يا اماه وانا اعلم اني مذبوح مقتول ظلما وعدوانا وقد شاء الله ان يرى حرمي ورهطي مشردين واطفالي مذبوحين ماسورين مقيدين وه يستغيثون فلا يجدون ناصرا،
فقالت ام سلمة:واعجبا فانى تذهب وانت مقتول؟!
قال لها:يا اماه ان لم اذهب اليوم ذهبت غدا وان لم اذهب في غد ذهبت بعد غد وما من الموت بد.
ثم اطلعها على مكان مصرعه واعطاها من تربته.
وسجل سماحة الشيخ هنا نقطة ايضا:وهي ان هذا الحديث الذي تنقله ام سلمة عن النبي (ص) موجودة في مصادر المسلمين وليس مقتصرا على المصادر الشيعية.
4/الهاشميات:
اجتمعن للنياحة فمشى اليهن وسكتهن وقال انشدكن الله ان تبدين هذا الامر معصية لله ولرسوله فقلن:ولمن نستبقي النياحة والبكاء فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله وعلي وفاطمة…..
5/موقف عبد الله بن عمر
طلب عبد الله بن عمر من الامام الحسين (ع) البقاء في المدينة فابى الحسين وقال:يا عبد الله ان من هوان الدنيا على الله ان راس يحي بن زكريا يهدى الى بغي من بغايا بني اسرائيل وان راسي يهدى الى بغي من بغايا بني امية ….
ولما عرف ابن عمر من الحسين عزمه على مغادرة المدينة،قال له:يا ابا عبد الله اكشف لي عن الموضع الذي لم يزل رسول الله (ص) يقبله منك فكشف له عن سرته فقبلها ثلاثا وبكى،
فقال له ابو عبد الله:اتق الله يا ابا عبد الرحمن ولا تدعن نصرتي، وفي بعض الروايات انه قال له:لو ان اباك عمر حاضرا لما ترك نصرتي.
6/موقف ابن عباس:
وهذا الموقف كان من ابن عباس حين اراد الامام الحسين عليه السلام التوجه الى العراق من مكة :
قال له:يا ابن العم اني اتصبر وما اصبر،واتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال.ان اهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم،اقن في هذا البلد فانك سيد اهل الحجاز،…وان ابيت الا الخروج فسر الى اليمن فان بها حصونا وشعابا وهي ارض عريضة طويلة،ولابيك فيها شيعة…
فقال الحسين (ع):يا ابن العم اني والله لاعلم انك مشفق وقد ازمعت المسير…
ثم ذكر فضيلته:
بعد استعراض هذه المواقف والتي يتوضح فيها التخوف الجدي على مسير الامام الحسين عليه السلام ،نرى الامام سلام الله عليه يترك وصية لاخيه محمد بن الحنفية في غاية الاهمية ،وان التحليل الشخصي للسمات القيادية المتفردة للامام يتكشف من خلال هذه الوصية،هذه الوصية تكشف الملامح القيادية التي يتفرد بها سلام الله عليه وهي ايضا ترسم ملامح سمات قيادية لمن يريد الاقتداء به صلوات الله وسلامه عليه.
وان قيمة هذا التحليل تكمن فيما نأخذه من الامام من مهارات قيادية تجعلنا قادرين على مواجهة العجز الحضاري الذي نمر به اليوم كمسلمين بشكل عام وكمؤمنين بالامام الحسين عليه السلام بوجه خاص.
نص الوصية
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما اوصى به الحسين بن علي الى اخيه محمد بن الحنفية،ان الحسين يشهد ان لا اله الا الله وحده لاشريك له وان محمدا عبده ورسوله جاء بالحق من عنده وان الجنة حق والنار حق والساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور.
واني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولامفسدا ولا ظالما،وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي (ص).
اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر واسير بسيرة جدي وابي علي بن ابي طالب،فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق ومن رد علي هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين.
هذه وصيتي اليك يا اخي وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب.
تحليل الوصية
اننا من خلال تحليل هذه الوصية نكتشف الملامح المتفردة في شخصية الامام الحسين القيادية،وفي هذا التحليل سنوزع الوصية الى مقاطع:
الأول: \”هذا ما اوصى به الحسين بن علي الى اخيه محمد بن الحنفية،ان الحسين يشهد ان لا اله الا الله وحده لاشريك له وان محمدا عبده ورسوله جاء بالحق من عنده وان الجنة حق والنار حق والساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور.\”
يكشف سلام الله عليه في هذا المقطع عن الخلفية الفكرية التي ينطلق منها وهي الحاكمة على طريقة تفكيره ونمط حياته ومواقفه في هذه الحياة ولا شك ان هذه الخلفية هي التي ترسم له السياسات والمبادئ التي يلتزم بها في تحركه،وهو يلزم من يريد ان يقيم موقفه بان يرجع الى هذه المرجعية الفكرية لقوم مواقف الامام في ضوئها.
وربما فهمنا من خلال هذا المقطع انه سلام الله عليه يحدد الرؤية التي يتطلع اليها فهي ابعد من هذه الدنيا،انها الجنة في الاخرة،والخلود مع المعاني السامية التي جاءت بها الرسالات السماوية،فطالما ان الانسان سيموت وسوف يبعث من قبره عاريا ،و يلاقي حسابا على كل ما قام به من عمل في الدنيا،اما يقوده الى جنة او نار،فليكن اختياره دائما بما يجنبه العذاب هناك ويضعه في صف الذين يخلدون في جنان الله الواسعات.
ان تحديد الرؤية مسالة في غاية الاهمية لاي انسان يريد الانطلاق بمشروع في الحياة،والرؤية لا تتحدد الا انطلاقا من المرجعية الحاكمة على طريقة تفكير الانسان،ومن ثم تشكل محددات تخطيطه.
اشار الامام عليه السلام في هذا المقطع الى هذه المرجعية ومن ثم الرؤية التي تضيئ له درب النهوض.
الثاني:\”واني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما.\”
ولفهم اعمق لهذا المقطع من وصيته المباركة علينا ان نفهم معاني كلماته
الاشر:قيل هي المرح والبطر،وقيل هي اشد البطر،ولفظة البطر يعني يعني عدة وجوه لكن المعنى المشترك بين الاشر والبطر هي التعالي والتكبر
وقد وردت هذه اللفظة مرتين في القرآن الكريم:\”القي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب اشر\”25/القمر
\”سيعلمون غدا من الكذاب الاشر\”26/القمر
قال المفسرون:اي شديد البطر متكبر يريد ان يتعظم علينا بهذا الطريق.
اما لفظة البطر فتعني حسب الراغب الاصفهاني:البطر دهش يعتري الانسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها الى غير وجهها.
وقد وردت اللفظة مرتين في القرآن الكريم،قوله تعالى:\”ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله\”47/الانفال.
وقوله تعالى:\”وكم اهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم الا قليلا وكنا نحن الوارثين\”58/القصص
وقد نفهم من خلال المعنى اللغوي وما اورده المفسرون،ان البطر يعني سوء التقدير والتخطيط لما بين يدي الانسان من امكانيات فيفرط فيها او لايعرف كيفية تثميرها لصالح تحقيق اهدافه المشروعة في الحياة.
اقول بعد ان اتضح لنا معنى كلمتي الاشر والبطر،ان سيد الشهداء سلام الله عليه يريد ان يوصل رسالة للجميع ان تحركه جاء وفق تخطيط دقيق فليس فهي تعال على احد لما له من مكانة خاصة عند المسلمين باعتباره سبط رسوله ولم يكن يفتقر الى حسن التقدير فقد جاء تخطيطه بتقدير دقيق كما انه لم ينطلق في تخطيطه من نزعة افسادية او ظلم لاحد.
وهذا المقطع يكشف لنا امتلاك الامام الحسين عليه السلام للمهارة التخطيطية كما يكشف عن ادراكه العميق لما يؤدي بالتخطيط للفشل ،وهو عدم وجود حالة من النزاهة والسلامة للجهة المخططة من التعالي والتكبر وسوء التقدير والافساد والظلم،فاي مخطط تشوبه خلفية غير بريئة من ذلك لا يتوقع له ان يوصل الامة الى ساحل الرقي والتقدم.
وهذا التحليل يقودنا للقول ان على اتباع الامام الحسين اليوم ان يعمقوا من معرفتهم باصول التخطيط لحياتهم وان يدربوا الاجيال من الان على امتلاك ذلك،استفادة من بركات سيد شباب اهل الجنة الامام الحسين عليه السلام.
ثم تطرق فضيلة الشيخ عبد المجيد العصفور لالتزام الامام الحسين عليه السلام بما خطط له،حيث بعث بابن عمه مسلم ابن عقيل ليقيس مدى التفاعل الجدي من قبل الكوفيين الذي بعثوا له بآلاف الرسائل يطلبون منه القدوم عليهم.
واختتم المجلس بذكر الشهادة الدامية لمسلم بن عقيل وهو اول شهيد في طريق الحسين عليه السلام الى مصرعه في كربلاء،حيث ان مسلم واجه بوحده جيشا فقال قتال الابطال ولم يقدروا عليه الاب الخديعة،ثم رموه من اعلى القصر الى الارض،فذهب شهيدا مدافعا عن رسالة الاسلام العظيم وآل الرسول الكرام.\”انا لله وانا اليه راجعون\”\”ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم\”.