المتقون استراتيجيون


الفرق بين الاستراتيجين وغيرهم،انهم ينظرون للامور من خلال رؤية متكاملة،بينما العاديون نظرتهم تجزيئية محدودة بالموقف الذي يعيشونه،وقل ان يضعوا الامر في اطار موقعه الدقيق من كل شئون حياتهم،كما ان الاستراتيجين بعيدو المدى،لا تحبسهم اللحظة الآنية وانما ينظرون دائما للمستقبل البعيد،على العكس من العاديين الذي تستهلكهم اللحظة وتفوت عليهم فرصا مستقبلية كبيرة.
‘,’
ولهذه الفروق بين الاستراتيجين وغيرهم،ترى ان المؤسسات العالمية تستقطبهم وتهتم كثيرا بالاستفادة من استشاراتهم،وتضع بين ايديهم كافة المعلومات وتعطيهم كل الثقة،وتأخذ استشاراتهم على محمل الجد،وتتنافس المؤسسات الكبرى وكذلك الدول فيما بينها في تجميع العدد الاكبر منهم،ويذكر بهذا الصدد ان تفوق الولايات المتحدة على الاخرين راجع في جزء منه الى توفرها على اعداد كبيرة من الاستراتيجيين قياسا للدول الاخرى المنافسة،سواء بالنسبة للشركات الكبرى او المؤسسات العلمية او اجهزة الدولة.
ولست مبالغا اذا ما قلت ان المتقين وهم المجتمع الذي يروم الاسلام صياغته،هو مجتمع الاستراتيجيين،الذي ينظرون الى الامور من خلال وضعها في نصابها المتكامل مع ابعاد الحياة الاخرى،وتمتد نظرتهم الى المدى البعيد،في الحياة الدنيا وفي الأخرة.وهذا ما يمكن للمتأمل في كتاب الله العزيز ان يلمسه وهو يتابع سمات المتقين وصفاتهم وممارستهم العملية،وتجاوبهم مع كل ما يرشد اليه القرآن من خير،وابتعادهم عن كل شر حذر منه.
ويكفي ان نقف امام هذه الآية المباركة لنقترب بعض الشيئ من السمات الاستراتيجية عند المتقين،وهي الاية 177 من سورة البقرة،والتفصيل يمكن تحصيله من خلال متابعة الايات التي توصف المتقين وهي متعددة في كتاب الله العزيز،يقول تعالى:\” لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ\”177/البقرة
واذا عرفنا ان المقصود بالبر التوسع في الخير،وهو ما يقصد به العمل الحضاري اليوم،نعرف ان المتقين يقومون \”يقيمون\” اي عمل يصدر منهم في اطار المردود الحضاري له،وبذلك يدربون انفسهم على الخروج من شرنقة محدودية الموقف او العمل الذي هم فيه،الى رحاب البر الواسع،كما ان نظرتهم تتجاوز الواقع المعاش الى ما بعد الموت،وهي نظرة بعيدة المدى جدا،فمن يؤمن باليوم الأخر،يتصور نفسه في نتائج العمل الذي يقوم به،وهذه النظرة تدرب المتقي على ان يفكر في المستقبل دائما.
ومن المؤسف حقا،ان يغفل بعض المتقين عن مستقبل عملهم في هذه الدنيا قبل الأخرة،وهذا راجع لتصور البعض ان القيمة المستقبلية للعمل في الدنيا غير مهمة كما هي للاخرة.
لكن المراجعة للآيات القرآنية،التي تتحدث عن علاقة المتقين بالمستقبل الدنيوي تؤكد ان من مسئولياتهم النظر لمستقبل عملهم في حياتهم الدنيا، وهذا ما نجده في الاية المباركة:\” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ\”18/الحشر.
ومع ان بعض المفسرين،لم يركز على اعطاء مستقبل العمل في الحياة الدنيا،من خلال تفسير هذه الآية بالذات،الا ان صرف الغد الذي يعني المستقبل في هذه الاية،عن المستقبل الدنيوي الى المستقبل الأخروي،لا يتفق مع المعنى المراد من كلمة الغد الواردة في آيات اخرى،حيث قصد به الغد في هذه الدنيا،كقوله تعالى:\” أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ\”12/يوسف وقوله تعالى:\”وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا\” 23/الكهف وقوله تعالى:\” ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس باي ارض تموت ان الله عليم خبير\”34/لقمان
وكل هذا يعني ان المتقين يفكرون بطريقة استراتيجية،يجعلون الموقف في اطاره التكاملي،وينظرون لمستقبل عملهم في الدنيا والاخرة،انهم استراتيجيون،والاستراتيجيون ناجحون متفوقون.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *