نص الكلمة التي القاها الشيخ عبد المجيد العصفور، في اربعينية الفقيد الفقيه العارف السيد محمد رضا الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه)، بديوانية الامام الشيرازي في الكويت، في يوم السبت الموافق التاسع من رجب 1439ه، المصادف:12/7/2008م.
‘,’بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه اجمعين محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.
نقدم مجددا تعازينا الى سيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان،والى مراجع ديننا العظام،سيما المرجع الكبير اية الله العظمى السيد صادق الشيرازي،وللاسرة الشيرازية الكريمة،ولكافة المسلمين للمصاب الجلل بفقد اية الله المقدس السيد محمد رضا الشيرازي رضوان الله تعالى عليه.
دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية بن ابي سفيان بعد شهادة امير المؤمنين علي عليه السلام،فقال له:يا ضرار صف لي عليا.
فتمنع ضرار،فالح معاوية عليه،فلم يستجب ضرار،فاصر عليه معاوية.
فقال:اما اذا كان ولابد فاقول فيه ما اعلمه فيه: كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يقلب كفيه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشب . كان والله كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا إذا أتيناه ، ويأتينا إذا دعوناه ، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة ، ولا نبتدئه عظمة ، إن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله . فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ، وكأني أسمعه وهو يقول : يا دنيا أبي تعرضت ؟ أم إلي تشوقت ؟ هيهات هيهات غري غيري ، قد باينتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ، فعمرك قصير ، وعيشك حقير ، وخطرك كثير ، آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق .
قال: فذرفت دموع معاوية على لحيته فما يملكها وهو ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء ، فقال معاوية : رحم الله أبا الحسن ! كان والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها، فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها( *) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 18 : 225 وغيره
اذا تحدث لك اي واحد التقى سيدنا الفقيد، فسوف يذكر لك خصلة تميز بها سيدنا الفقيد،تقترب مما وصف به ضرار امير المؤمنين عليا عليه السلام، واذا سألت احدا عاش معه فترة من الزمن فسوف يذكر لك عددا من الصفات، اما الذين عايشوه لفترات طويلة، فيقولون عنه ان خلقه يقترب من خلق المعصوم، الا انه ليس بمعصوم، وان حياته صورة مصغرة من حياة المعصومين (ع) في هذا الزمان.وهذا ما سمعته من عدد من الذين عايشوه.
ولان اتخاذ الفقيد معتبرا، ابلغ من اتخاذه مفتخرا،فلابد لنا ان نأخذ منه ولو صفة واحدة، لتكون لنا في حياتنا عامل تغيير وتطوير،وهنا اسمحوا لي ان اقف على اول صفة وصف بها ضرار امير المؤمنين عليا عليه السلام، حين قال عنه:كان والله بعيد المدى.
هذه من ابرز الصفات التي تميز بها سيدنا الفقيد رضوان الله تعالى عليه، والذي في تقديري، قد مضى بها مطمئنا، راضيا مرضيا.
وهذه الصفة هي ما تجعل الانسان يعيش المستقبل ويخطط له، وهي الصفة التي تجعل من الذي يتحلى بها استراتيجيا في موقعه، سواء كان في جماعة او مؤسسة او دولة او حتى شركة تجارية.
هذه الصفة تحول الانسان الى قائد استراتيجي، يحسب له الاصدقاء والاعداء الف حساب.
فهو بالنسبة الى المقربين منه مثالا يحتدى به، وهو الشخصية المرجعية التي ترسم للامة او الجماعة او المؤسسة والدولة مهماتها الرئيسية واهدافها الحالية والمستقبلية واستراتيجياتها وسياساتها الانية والمرحلية.
اما الاعداء فهم يعلمون ان القادة الاستراتيجيين هم الذي يدأبون على المسح الدائم للبيئة الداخلية والخارجية، ومن ثم هم الاقدر على تعديل مواقع الجهات التي يكونون فيها مع مرور الزمن ومن ثم امتلاك ناصية الامور والدفع الى التفوق والغلبة بصورة دائمة. وهم المخططون بصورة دائمة، وقد اشارت الدراسات ان المخططين في العالم لايتجاوزون الثلاثة بالمئة بينما البقية في عداد المقودين لانهم لايخططون.
وقبل ان اشير الى ملامح الشخصية القيادية الاستراتيجية لدى السيد الفقيد، لابد لي من القول، ان الامم والمؤسسات الكبرى تتنافس اليوم في باعداد القادة الاستراتيجين عندها، ويؤكد الخبراء ان هذه من اهم النقاط التي تتفوق بها المؤسسات الاميركية اليوم على بقية المؤسسات في انحاء العالم، اذ انهم يمتلكون العدد الاكبر من الاستراتيجين في العالم.
وهذه الصفة التي تميز بها سيدنا الفقيد واشار اليها ضرار كاول صفة بارزة لعلي عليه السلام، هي ما اكد عليه القرآن الكريم،حينما اكد على اهمية النظروالتفكير في المستقبل،ففي القرآن الكريم اربع آيات تربط بين المستقبل والمتقين. ثلاث منها تقول:\”…والعاقبة للمتقين\”
وواحدة تقول:\”…ان العاقبة للمتقين\”والمتتبع لهذه الآيات المباركات يدرك جيدا،ان المقصود بالعاقبة فيها،هي العاقبة في هذه الدنيا التي نعيش قبل العاقبة الاخروية التي يعمل لها كافة المعتقدين بالرسالات السماوية.فهذه الحقيقة التي يؤكدها القرآن الكريم جاءت للتأكيد على انتصار اصحاب الرسالات السماوية في مشروعهم الحياتي، كنبي الله نوح عليه السلام، ونبي الله موسى ورسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمكن لنا ان نلمس ذلك ايضا من خلال الاية التي الكريمة التي تحث على النظر للمستقبل، في قوله تعالى:\” :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)الحشر/18
والغد هنا يعني المستقبل سواء المستقبل البعيد وهو الأخرة كما يذهب الى ذلك المفسرون،او المستقبل القريب وهو المستقبل في هذه الحياة، وهو الاقرب لانه المعنى القريب وهو المتبادر،وصرفه الى ما بعد الحياة الدنيا بحاجة الى قرينة، وقد وردت في القرآن الكريم ايات تفيد ان الغد يقصد به المستقبل القريب في هذه الحياة.
كقوله تعالى:(قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ *أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)
وقوله تعالى:(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا)الكهف/23
وقوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)لقمان/34
ومن هنا يمكن القول ايضا ان الاية المباركة،التي تتحدث عن امكانيات النجاح في الحياة،تدعو الطامحين في ذلك الى اعتماد مهارة التخطيط،التي هي احد معاني الوسيلة التي جاءت في هذه الاية المباركة: :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)المائدة/35.
اذن ايها الاحبة هذه الصفة التي ينبغي لنا ان نتلعمها من امام المتقين علي عليه السلام ومن فقيدنا السعيد،اية الله الفيه العارف السيد محمد رضا الشيرازي قدس سره.
واود هنا ان اشير الى الملامح التي تؤكد على هذه الصفة عنده رضوان الله تعالى عليه:
1/الذي يطلع على كتابه كيف نفهم القرآن ويقرأ المقدمة وهو الكتاب الذي طبع قبل ثلاثين عاما،وهو بعد لم يصل الى العشرين من عمره يكتشف ان مؤلف هذا الكتاب يمتلك عقلية قائد استراتيجي فذ،ففي بداية المقدمة يطرح سؤالا استراتيجيا،هل استنفذ القرآن اغراضه،ثم يتعرض للاساليب الخاطئة التي يتعامل بها المسلمون مع كتاب الله،فتحرم نفسها من الاستفادة من الطاقة الحيوية الخلاقة التي يفجرها القرآن في المجتمعات،فيدفعها نحو التنمية الشاملة والمستدامة.
والحق لو ان الفقيد وجد في مجتمع غير مجتمعنا وامة غير امتنا،لرفع لتلقفته المؤسسات الكبرى منذ صغره،وعملت على استخراج الطاقات الابداعية الاستراتيجية التي يتميز بها.
2/تعهده الشخصي وبصورة دائمة يتربية القادة المستقبليين،وقد يشار الى ان من ابرز اهتمامات القادة الاستراتيجية تنمية الموارد البشرية،واصعب تنمية انما هي في بناء القادة،وقد عمل الفقيد في طيلة حياته وفي مختلف المواقع على تربية القيادات،علميا وعمليا،واليوم هناك عدد لاباس به من طلابه وتلامذته شرعوا في تدريس البحث الخارج،وهي المرحلة المتقدمة في الدراسات الحوزوية.
3/دعواته وعمله على فتح المؤسسات المختلفة،للعمل الديني والخدمي في مختلف انحاء العالم،سواء بتصديه المباشر لذلك او عبر تحريضه وتشويقه لطلابه ومحبيه على القيام بهذه الاعمال،وهو يدل على ادراكه العميق لقيمة العمل المؤسساتي واستمراريته،على العكس من ذلك العمل الفردي،الذي ينتهي وينقطع بتوقف صاحبه،مرضا او موتا او تعبا،وتراجعا.
4/استفادته القصوى من التطورات التكنولجية الحديثة في الدعوة الى الله سبحانه وتعالى والترويج لتعاليم الاسلام وفق منهج اهل البيت عليهم السلام.ومن نافلة القول،ان الفقيد مؤسس ومحرض لتاسيس عدد من الفضاءات التي تخدم في هذا المجال.
من هنا فان خسارة هذا العالم الفذ هي خسارة استراتيجية،ولانشك ان هذه الامة وهذه الاسرة الكريمة التي قدمت الكثير من الخدمات للاسلام خلال القرن الحالي والماضي لقادرة باذن الله تعالى على التعويض الاستراتيجي وابراز من يسد الفارغ الكبير الذي تركه الفقيد،وان كان فقده لايسده شيئ،كما في النبوي الشريف.
اشكركم لحسن اصغائكم واستماعكم،والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.