امام المتقين


دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية بن ابي سفيان بعد شهادة امير المؤمنين علي عليه السلام،فقال له:يا ضرار صف لي عليا.
فتمنع ضرار،فالح معاوية عليه،فلم يستجب ضرار،فاصر عليه معاوية.
‘,’فقال:اما اذا كان ولابد فاقول فيه ما اعلمه فيه: كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يقلب كفيه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشب . كان والله كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا إذا أتيناه ، ويأتينا إذا دعوناه ، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة ، ولا نبتدئه عظمة ، إن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله . فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ، وكأني أسمعه وهو يقول : يا دنيا أبي تعرضت ؟ أم إلي تشوقت ؟ هيهات هيهات غري غيري ، قد باينتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ، فعمرك قصير ، وعيشك حقير ، وخطرك كثير ، آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق .
قال: فذرفت دموع معاوية على لحيته فما يملكها وهو ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء ، فقال معاوية : رحم الله أبا الحسن ! كان والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها، فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها( *) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 18 : 225 وغيره
ليس ضرار وحده الذي يحزن على فقد رجل وصفه النبي بانه امام المتقين،بل اي انسان شريف يتألم لفقدان شخصية عظيمة قدمت انموذجا انسانيا تعامل مع الدنيا بكل شموخ،امتلكها واصبحت بين يديه،لكنه لم يرها هدفا في حد ذاته بل هي طريق الى حياة ارقى من هذه الحياة الدنيا مهما على كعبها،وبلغ خطرها.
لقد كان اماما للمتقين كما قال عنه النبي (ص) لانه لم يخرج قيد انملة عن سلوك المتقين الذي تحدثت عنه آيات الله في القرآن الكريم،فعن ايمانه بالغيب الذي يتحدث عنه كتاب الله كصفة للمتقين،نراه يخبر بعض اصحابه عن احداث مستقبلية اخبره عنها رسول الله (ص)،مثل ما جرى في حرب النهروان حيث ذكر انه لن يقتل من اصحابه الاعشرة ولن ينجو من الأخرين الا عشرة،وهكذا كان.كما اخبر بواقعة الطف حين مر بمحاذاة كربلاء،وقد سجل بعض من كان معه ذلك.
وعن اقامته للصلاة وايتائه الزكاة كصفتين للمتقين اشار اليهما القرآن الكريم،يشهد له المفسرون انه جمع بين اقامة الصلاة وايتاء الزكاة في لحظة واحدة،حينما تصدق بخاتم في يده وهو راكع في صلاته،وقد اورد المفسرون ذلك في اسباب نزول الاية المباركة\”الذين يقيمون والصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون\”وفوق ذلك قدم علي واسرته المكونة منه وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام وسيدي شباب اهل الجنة الحسن والحسين (ع)،قدموا ارقى الامثلة الانسانية في العطاء،دون رجاء ان يقابل هذا العطاء من الناس باي مردود\”ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتميا واسيرا،انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكور\”حيث ذكر المفسرون في اسباب نزول هذه الآيات ان عليا واسرته صاموا ثلاثة ايام،ووقف على بابهم ساعة الافطار مسكين ويتيم واسير،في ثلاث ليال متتاليات،فما كان من اهل بيت النبي،الا ان قدموا لهم افطارهم،ولم يتناولوا خلال ثلاثة ايام سوى الماء،وما يدفعهم لذلك الا رحمة ورائفة بضعاف خلق الله،وحبا لما يدخره الله للمعطين في سبيله.وقد سجل لهم هذا الموقف في كتاب الله الخالد الذي يتلى آناء الليل واطراف النهار،فكان تعويضا لا يقدر،بملئ الارض طعاما.
وكان علي عليه السلام مثالا للذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ،حيث انه لم يغضب للمواقف التي قام بها الخوارج،ومنحهم وهم معارضوه المتطرفون،ما منحه بقية المسلمين،ان لهم ثلاثا، ان لا يمنعهم الفيئ،ولا دخول المساجد،وان لا يبدأهم بقتال،ورغم تفوقه الواضح في المعارك التي اثيرت ضده الا انه لم ينتقم من الذين اججوا ضده،ولم يلاحق هاربا ولم يستخرج متخفيا،مع علمه بذلك،كما هو واضح في كلماته الي ذكرها ابان هذه المعارك.
وهو تجسيد عملي للعفو عن الناس،مع مقدرته على الاقتصاص منهم،لكنه يؤثر التقوى بصورة دائمة،ويمنح الخاطئين فرصا اخرى ليصححوا من مواقفهم.
علي مثال لا يمكن تكراره في تاريخ المسلمين،وهو كنز كما عبر عن ذلك رسول الله (ص)لذلك يصبح فقدانه خسارة عظمى للمسلمين،واذا كان الماضون من المسلمين لم يكتشفوا القيمة الاستثنائية في علي واضاعوا كنزا ثمينا،فاننا اليوم يمكننا الرجوع لعلي للاخذ من علمه وطريقته الخاصة في الحياة،سواء وهو مع النبي (ص) اومع الخلفاء من قبله او حين اصبح خليفة على المسلمين.

, , ,