خطبة الجمعة ليوم 11/06/2004


انفق.. تدخل الجنة

حديث الجمعة لسماحة الشيخ عبد المجيد العصفور، بمسجد الإمام الهادي عليه السلام في مدينة عيسى: الجمعة: 22/ربيع الثاني/1425 هـ الموافق: 11/6/2004 م.
‘,’

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين..
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وكما تعلمون أن عاقبة التقوى في الحياة الدنيا حياة طيبة سعيدة، وعاقبتها في الآخرة جنة عرضها السماوات والأرض.. ولو حاول أي واحد منا أن يتصور هذه الجنة لوجدها تتجاوز قدراته التخيلية، وحسب ما ورد في الرواية الشريفة: \”ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر\”.

في وصف الجنة
من غير الممكن لنا أن نحيط علما بالجنة، دون رجوع إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والروايات عن الأئمة المعصومين عليهم السلام.ذلك أن الجنة وجود ما ورائي، وهذه بين أيدينا مجموعة من الآيات والروايات عن الجنة، نحاول من خلالها أن نقارب صورة عنها لتحرك بداخلنا الرغبة في الاستزادة من معين التقوى.
يقول تعالى في كتابه الكريم:
\”مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار\” 35/الرعد.
ويقول جل وعلا:
\”مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات..\” 15/محمد.
وجاء في الحديث عن النبي(ص) قوله: \”لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها\”.
ويقول علي عليه السلام: \”الجنة التي أعد الله تعالى للمؤمنين خطّافة لأبصار الناظرين، فيها درجات متفاضلات ومنازل متعاليات، لا يبيد نعيمها ولا يضمحل حبورها، ولا ينقطع سرورها، ولا يظعن مقيمها، ولا يهرم خالدها، ولا يبؤس ساكنها، أمن سكانها من الموت فلا يخافون، وصفا لهم ألعيش ودامت لهم النعمة في أنهار من خمر لذة للشاربين..\”.
ويقول الإمام علي عليه السلام: \”…لذتها لا تمل، ومجتمعها لا يتفرق، وسكانها قد جاوروا الرحمن، وقام بين أيديهم الغلمان، بصحاف من الذهب، فيها الفاكهة والريحان\”.
وعنه عليه السلام أيضا: \”… فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها ولذاتها وزخارف مناظرها ولذهلت بالفكر في اصطفاق أشجار غرست عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها… فلو شغلت قلبك أيها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة لزهقت نفسك شوقا إليها، و لتحملت من مجلسي هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالا بها…\”.
وعن الصادق (ع): \”إن من أدنى نعيم أهل الجنة أن يوجد ريحها من مسيرة ألف عام من مسافة الدنيا..\”.

مؤهلات دخول الجنة
غير أن الوصول إلى هذه الجنة بحاجة إلى تأهيل خاص، وهذا التأهيل هو ما نجده في مواصفات المتقين، فإذا تاقت نفسك إليها فما عليك إلا أن توفر عندك هذه المواصفات وتماما كما أن أي بلد يضع مجموعة قوانين للذين يريدون أن يصبحوا من مواطنيه ويمنحوا جنسيته.وبعض البلدان تضع قوانين مشددة كإتقان لغة البلد والدخول في امتحان شفهي وتحريري وإلمام بثقافة ذلك المجتمع، وإقامة فيه تزيد على سبع سنين. كذلك الجنة فان دخولها بحاجة إلى تأهيل خاص، فما هي المؤهلات العملية التي يتحتم على من يريد الدخول إلى الجنة الالتزام بها:
تعالوا نتدبر في آيات القرآن الكريم التي تؤكد على التدريبات العملية للتقوى.فقد سبق لنا في الجمعة الماضية أن تأملنا الدعوة الكريمة من الله سبحانه وتعالى بالمسارعة إلى الجنة.
\”وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين، والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون\” 133، 134/أل عمران.
في هذه الآيات المباركات نجد تأكيدا على البعد العملي في التأهيل لدخول الجنة المتمثل في الإنفاق، ثم تأكيدا على البعد السلوكي،والتصحيح الذاتي كما ذكرت في المرة الماضية.
والحق أن البعد العملي في التقوى يتمثل في تدريبين:
ألأول: الصلاة
الثاني: الإنفاق

وهو ما نجده في قوله تعالى: \”الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون\” 3/البقرة.
وكما أن الله سبحانه وتعالى افترض علينا واجبات في الصلاة كذلك الإنفاق.
فقد أوجب علينا الخمس والزكاة، وكما استن لنا النوافل لكي نمارس الصلاة كعمل محبب إلى القلب يقربنا إليه سبحانه، كذلك حبب إلينا كل أعمال الإنفاق في مجال الخير، وإنك لتجد في القرآن الكريم ربطا شديدا وعلاقة مطردة بين الإنفاق والحياة الحضارية المتقدمة.
فتعالوا عباد الله نتأمل في آيات الإنفاق لنأخذ منها التدريب العملي على الإنفاق بأرقى صورة، ولندفع بالإنفاق لتنمية مجتمعنا بأقصى مستوياته.

آيات الإنفاق:
المتتبع للقرآن الكريم يجد آيات كثيرة تتحدث عن الإنفاق، ويجد ربطا بين الصلاة والإنفاق، كممارسة عملية عند المتقين، يقومون بها بشكل يومي، وإذا كانت الصلاة تمثل العلاقة اليومية بالله سبحانه وتعالى، فإن الإنفاق يمثل العلاقة اليومية بالناس.
\”ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون\” 3/البقرة.
وتأكيد القرآن على \”مما رزقناهم ينفقون\”يشير إلى أن هنالك إمكانية للإنفاق لأي إمكانية منحك الله سبحانه وتعالى ايها، فقد تنفق من مالك، وقد تنفق من عملك، وقد تنفق من جهدك وطاقتك، وقد تنفق وجاهتك في المجتمع واثر كلماتك في الناس.
ونجد في آية ثانية، تأكيدا على الدقة في الإنفاق:
\”وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين\” 195/البقرة.
إن هنالك علاقة بين الإنفاق وانهيار المجتمع، فكلما زادت نسبة الإنفاق ارتقى المجتمع وعلى العكس من ذلك حين تتراجع ينهار المجتمع.
ويحدد لك القرآن الكريم أولويات الإنفاق:
\”يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم\” 215/البقرة.
ويعتبر القرآن الكريم، الموقف إنفاق، حين يكون فيه تنازل عن حق، وإن كان اعتباريا:
\”ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو..\” 219/البقرة.
ويذكر القرآن الكريم بصورة دائمة أن فرصة الحياة ضئيلة ومحدودة، ولابد للإنسان أن ينتهزها قبل فوات الأوان:
\”يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شافعة والكافرون هم الظالمون\” 254/البقرة.

ويضرب لله لنا مثلا لأثر الإنفاق في تنمية المجتمع، تعالوا نستمع إليه:
\”مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم\”261/البقرة.
ويعقب على ذلك بقوله تعالى:
\”الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون\” 262/البقرة.
ويحذر القرآن الكريم من المن في الإنفاق:
\”يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس…\” 264/البقرة.
بل يطالبنا بإنفاق أطيب ما عندنا،
\”يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم..\” 267/البقرة.
وإن القرآن الكريم يؤكد أن مردود الإنفاق على أنفسنا بالدرجة الأولى، يقول تعالى:
\”.. وما أنفقتم من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون\” 272/البقرة.
ويربط القرآن الكريم بين عادة الإنفاق وبين الحالة النفسية للمؤمن، فالمؤمن الذي درب نفسه على الإنفاق في مختلف الظروف هو إنسان سوي النفس، يطرد عن نفسه الهموم والغموم،
\”الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون\” 274/البقرة.
ونجد في سورة آل عمران، ربطا بين الإنفاق والحياة الحضارية الراقية وهو ما يطلق عليه القرآن الكريم بـ\”البر\”.
يقول تعالى:
\”لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم\” 92/آل عمران.
وهكذا إذن ترون دور الإنفاق في الحياة، وأما الآخرة فإن الله سبحانه وتعالى جعل الجنة مصيرا للذين دربوا أنفسهم على الإنفاق في الحياة.وهو ما بشرتنا به الآية الكريمة:
\”وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين\” 133-134/آل عمران.
وهناك الكثير من الآيات التي تتحدث عن الإنفاق، قد نوفق للتأمل في مرة أخرى.

نموذج حضاري
في سياق حديثنا عن الإنفاق ودوره في تنمية المجتمع، اود أن أشيد بالخطوة التي سينهض بها صندوق مدينة عيسى الخيري في تزويج مجموعة من أبناء المدينة من الطائفتين في زواج جماعي، وإني أطلب من كافة المؤمنين المشاركة بالدعم والمساندة في هذا المشروع الوحدوي الجميل، وأمد يدي لهذه الخطوة لأقدم كل ما أستطيع في سبيل دعمها وإنجاحها، وإنها لخطوة رائدة جديرة بالتقدير في ظل الظروف التي تعيشها أمتنا وما يريده البعض لنا من تمزق وتفريق بين المسلمين.وهي دلالة صدق عند القائمين بها على نزوعهم الوحدوي على الصعيد الإسلامي والوطني،واقدر أيضا ما قام به بعض أصحاب السماحة من عقد قران مجموعة من أبناء الطائفتين في مدينة حمد قبل أسبوعين،ومثل هذه المبادرات الطيبة هو ما يقطع الطريق على الذين يضخمون الطائفية هنا أو هناك على حساب الحالة الدينة الواحدة عندنا كمسلمين،وعلى حساب الروح الوطنية الواحدة التي تنظر لكافة أبناء هذا الشعب على قدم المساواة.
ندعو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتقين المؤهلين لدخول الجنة مع محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك وترحم وتحنن على حبيبك ونجيبك وخيرتك من خلقك محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصل ياربنا على علي أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين، وصل على الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وصل على سبطي الرحمة وإمامي الهدى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وصل على أئمة المسلمين وهداة المؤمنين علي بن الحسين زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري والخلف الحجة القائم المهدي، حججك على عبادك وأمنائك في بلادك صلاة كثير زاكية، والحمد لله رب العالمين.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *