كلمة الجمعة التي ألقاها سماحة الشيخ عبد المجيد العصفور حفظه الله. في مسجد الإمام الهادي عليه السلام في يوم الجمعة، 24/ربيع الأول/1425هـ، الموافق14/5/2004م.
‘,’
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين..
اللهم صل على حبيبك ونجيبك وخيرتك من خلقك محمد وعلى آله الطاهرين، وصل يا ربنا على علي أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين، وصل على الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وصل على سبطي الرحمة وإمامي الهدى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة،وصل على أئمة المسلمين وهداة المؤمنين علي بن الحسين زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري والخلف الحجة القائم المهدي حججك على عبادك وأمنائك في بلادك صلاة كثيرة تامة زاكية.
عباد الله.. أوصيكم ونفسي بتقوى الله، واعلموا أن من التقوى التعرف على حياة سيد الأولين والآخرين محمد (ص)، وقد حاولنا في الجمعة الماضية أن نتأمل في الآية الأولى التي ذكر فيها اسم النبي محمد (ص) وهي الآية 144 من سورة آل عمران. \”وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، سيجزي الله الشاكرين\”.
ودعونا نتأمل في هذا اليوم المبارك، في الآية الثانية في كتاب الله عز وجل والتي ورد فيها اسم النبي (ص) (محمد). وهي الآية الأربعون من سورة الأحزاب، قوله تعالى:
\”ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما\” 40/ الأحزاب.
بداية يؤكد المفسرون أن هذه الآية الكريمة ترتبط بالآيات قبلها والتي تتحدث عن قصة تزويج النبي (ص) لابنة عمته زينب ابنة جحش من مولاه زيد بن ثابت. وزيد بن ثابت كان النبي (ص) يرعاه وقد تبناه بعد أن صرح أبوه برفض بنبوته لأنه لم يشأ الرجوع إلى أبيه بعد أن من الله عليه بالإسلام، وآثر البقاء مع رسول الله ولما قال أبوه اشهدوا أنه ليس بابني، قالوا النبي (ص) أنه ابني.
ثم حدث عدم توافق بين زيد وزينب، وأراد زيد تطليق زينب، لكن النبي (ص) نصحه بالمحافظة على علاقته الزوجية، مع علم النبي (ص) أن الطلاق واقع لا محالة وأن زينب ستكون في يوم ما زوجة النبي (ص).
غير أن هنالك عادة كانت بمثابة القانون في المجتمع الجاهلي، وهي عدم الزواج من طليقة ابنة المتبنى \”كزيد بالنسبة للنبي (ص)\” وإن إقدام النبي (ص) على الزواج من زينب فيه مواجهة لهذه العادة الراسخة في مجتمعات الجاهلية.
وحدث طلاق زينب من زيد، وتقدم النبي (ص) للزواج منها وفق أمر سماوي. وانطلقت الإشاعات المغرضة ضد النبي (ص)، وحاول البعض -حتى- من المستشرقين أن يعتبر هذا النوع من الزواج دلالة على عدم نزاهة النبي (ص)، غير أن القرآن الكريم، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، طهارة النبي (ص) وأن علاقته بالناس علاقة ر سالية لا نسبية، بل انه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن ما حمله إلى الناس من رسالة من ربه تمثل آخر الرسالات السماوية.
لنقرأ الآية المباركة، ضمن السياق الذي جاءت فيه من الآية السادسة والثلاثين إلى الأربعين من سورة الأحزاب، \”وما كان لمؤمن ومؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا، أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا\” 36/الأحزاب.
يشير المفسرون هنا إلى أن عبد الله وأخته زينب ابنة جحش رفضا قبول زيد كزوج لزينب لان زيدا كان عبدا مملوكا وقد حرره رسول الله وتبناه، لكن هذا الزواج أمر حتمي لأن الله ورسوله أراداه لزيد وزينب. فخضعت زينب لذلك وقبلت، وأخوها عبد الله الزواج من زيد.
\”وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله، وتخفي في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه، فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا\” 37/الأحزاب.
تشير الآية هنا، إلى أن النبي (ص) أشار على زيد بالحفاظ على زوجته زينب، رغم معرفته أن الطلاق صائر لا محالة، وذلك من أجل أن يقوم النبي (ص) بنفسه بالقضاء على قانون عرفي خاطئ، وأن يقدم القانون السماوي عمليا، ثم تؤكد الآية على أن الله هو الذي زوج زينب بالنبي (ص). وربما كان ذلك مكافأة لها لخضوعها للأمر السماوي بزواجها الأول.
\”ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا\” 38/الأحزاب.
ما قام به النبي (ص) هو أنموذج لما كان يقوم به الأنبياء من قبل في مواجهة الواقع الفاسد في مجتمعاتهم.
\”الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا\” 39/الأحزاب.
فأصحاب الدعوات السماوية والرساليون في طول التاريخ البشري، كان خوفهم الأول والأخير من الله سبحانه وتعالى، وتبليغ رسالته هي الهم الأول والأخير عندهم، لا أي شيء آخر.
ثم تأتي الآية المباركة في خاتمة هذا المقطع:
\”ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما\” 40.
فالنبي لم يكن أبا لزيد ولا لغيره من الرجال في تلك الفترة، نعم كان أبا للقاسم والطيب والطاهر وإبراهيم الذين ماتوا صغارا، وكذلك كان أبا للحسنين(ع)، الذين لم يكونا في مرحلة الرجولة حينها، غير أن الأهم في شخصية النبي (ص) كونه رسول الله (ص) وخاتم النبيين، وهذا الجانب هو ما ينبغي للناس في زمن الرسول وما يأتي من بعده إلى قيام الساعة أن يأخذوا به.
وقد روي في المصادر الحديثية عن المسلمين \”أن النبي (ص) قال:\”مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله، فجعل الناس يطوفون به يقولون ما رأينا بنيانا أحسن من هذا إلا هذه اللبنة، فكنت أنا تلك اللبنة\”.\”.
أيها الأخوة المؤمنون:
بعد هذا العرض السريع لتفسير هذه الآيات المباركات، دعونا نأخذ العضات والدروس منها لحياتنا اليوم، ولنكرر على أنفسنا بصورة دائمة حين نقرا القرآن الكريم أو نطلع على أقوال المفسرين له، ما هي التأملات التي نحصل عليها من هذه الآيات المباركات..؟!
1- لقد سعى النبي (ص) لتحطيم الحواجز الاجتماعية التي فرضها الناس، على عملية التزاوج في المجتمعات البشرية،وعلينا اليوم أن ننظر إلى هذه الموانع التي تقلل من إمكانيات التزاوج في المجتمع وأن نعمل على إلغائها وتحطيم أثرها.
كان في زمن النبي (ص) الزواج من الطبقات الاجتماعية المتباينة شبه معدوم، بل كان هنالك عرف قوي يشبه القانون يحول دون الزواج بين أتباع الطبقات المختلفة، فعمل النبي (ص) شخصيا على إلغاء هذه القيود الوهمية التي نبعت من أهواء جاهلية وعقلية سافلة، لقد زوج ابنة عمته الشريفة النسب والحسب من مملوك له اسمه زيد.
وهنالك حوادث أخرى في المجتمع الإسلامي الأول سعى فيها النبي (ص) ليحطم أغلال المعوقات الاجتماعية في طريق الزواج، كإرساله جوبيرا وهو فقير معدم من الذي هاجروا إلى المدينة للدخول في الإسلام، ليتزوج من الذلفاء ابنة زياد بن لبيد أحد شيوخ الأنصار. وهي قصة ذات دلالة كبيرة.
كما أن النبي (ص) تزوج بنفسه طليقة زيد، فهي امرأة مؤمنة ذات شخصية مستقلة. لا ينقصها زواجها من زيد شيء. بل يشرفها لأنها التزمت أوامر الله.
واليوم نحن نرى الكثير من الحواجز في طريق الزواج باسم الكفاءة، والمؤهل. وهناك طبقات جديدة تتكون في المجتمع وكل طبقة تنأى بنفسها عن النزول إلى الطبقة الأخرى في الزواج وغيره، وإن المطلوب منا معاشر المسلمين أن نتغلب على ذلك ونجعل القيمة الإنسانية والإيمانية والأخلاقية مقدمة على أي تمييز طبقي أو طائفي أو عرقي.
والحق أن الدفع باتجاه التزاوج في العلاقات الاجتماعية يحطم القيود في المجالات المختلفة، ويقرب الفئات الاجتماعية من بعضها البعض.
وليس من صالح المجتمع أبدا أن تتحول بعض التعقيدات عند بعض الإباء والأمهات إلى ما يشبه القانون العام في رفض من يتقدم إلى الزواج من بناتهم، بل يتوجب علينا التوجه إلى تشخيص بعض الظواهر المعوقة للتزاوج في المجتمع، والعمل على تصفيتها قبل أن تتحول إلى قانون عرفي يصعب التنازل عنه، بل يعد من تجاوزه مجرما في عرف المجتمع.
ومما ينبغي التأكيد عليه هنا وإقتداء بالنبي(ص) أن يبادر علية القوم في القضاء على هذه الظواهر المرهقة لجيل الشباب المعاصر، فظاهرة تعقيد الحياة المادية لمن يريد الإقدام على الزواج ينبغي للعلماء والوجهاء والسياسيين في المجتمع، أن يبادروا بأنفسهم بتبسيطها، ليكونوا مثلا يتأسى بهم الآخرون، لا أن يكون تعقيد الجوانب المادية محل تفاخر بين هذا وذاك، مما يدفع الشباب للإحجام عن الزواج.
2- كما علينا كمجتمعات إسلامية، أن نعمل لفك الحصار عن بعض الفئات التي يصبح الزواج منهم صعبا، كالفئات التي لم تحصل على فرصة كافية للتعلم فتكون شبه معزوف عنها في مشاريع الزواج، وكأن ضعف التعليم، يمنع عنها حاجتها الطبيعية في تناول القضايا الزوجية.
ومثال آخر المطلقات، ينبغي لنا أن لا نساهم في ضرب طوق عليهن في سد فرصة الزواج مرة أخرى.وليس من الصحيح أبدا أن من فشل في زواجه الأول لن يكون مرشحا للنجاح في تجربة زوجية أخرى.
لقد فشلت زينب بنت جحش في زواجها الأول من زيد، فلم يمنعها ذلك من أن تكون زوجة أعظم شخصية على وجه الأرض.ولقد كانت تفاخر زوجات النبي بعد ذلك أن الذي زوجها من النبي(ص) هو الله سبحانه وتعالى.والنبي لم يمانع أبدا أن يكون زوجا لها بعد أن كانت زوجة لعبد من عليه بالعتق.
ولابد من القول هنا أن كثرة العوائق في طريق الزواج، لا تؤدي إلا إلى كثرة المشاكل الاجتماعية، بسبب عدم وجود القنوات الطبيعية التي يتناول من خلالها المأزومون حاجاتهم الجنسية، بل إن وجود هذه المشاكل يكشف عن معوقات اجتماعية في طريق الزواج وهو ما ينبغي للمجتمعات المتحضرة معالجته أولا بأول.
أليس غريبا أن تتفشى ظاهرة المثليين في مجتمع مسلم، واليس اغرب من ذلك أن تتعرض فئة الأطفال للاعتداءات الجنسية في مجتمع مسلم.
3- إن علاقتنا بالرسول (ص) هي علاقتنا بالرسالة، والتي هي خاتمة لكافة الرسالات السماوية، وهو ما يعني أن علينا البحث عن حلول مشاكلنا في هذه الرسالة، ولا يمكن توقع أن يظهر دين جديد غير الإسلام، كما ادعت إحدى النساء في اليمن هذه الأيام.
إن المشكلة الأساس التي عندنا معاشر المسلمين عدم تفاعلنا الحضاري مع القرآن خاتم الكتب السماوية. وهو الذي يجسد ارتباطنا الحقيقي بالنبي (ص).
في القرآن الكريم سنجد حلول مشاكلنا وسد احتياجاتنا، لكن علينا أن نتوجه إلى القرآن طالبين منه هذه الحلول بعقلية منفتحة قابلة لما يقره القرآن علينا.
4ـ ينبغي لنا أن نجعل همنا الأساس في الحياة أن نعيش وفق ما ترشدنا إليه الثقافة القرآنية دون أن نتأثر بما يثيره الآخرون من ثقافة قادمة من هنا أو هناك. ذلك أن التمسك بثقافة القرآن الكريم هو الذي يجسد الخشية الحقيقية من الله سبحانه وتعالى. وهذا ما ينطبق علينا في كافة المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وإننا اليوم مهددون بحق في أن نعيش نمط حياة غريب، في الوقت الذي ندعي أننا مسلمون.
إن الغرب لم يهزمنا بأسلحته وجيوشه، بل هو يهزمنا في كل يوم بوابل ثقافته وبناء أنماط حياة عندنا وفق فلسفته للحياة، لا وفق البصيرة القرآنية.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المقتدين بالنبي (ص) والمستسقين من بصائر القرآن الكريم في بناء نمط حياتنا، بجاه الحبيب المصطفى محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.