خطبة الجمعة ليوم 24/05/2002


من الخطبة الأولى: حسم الصراع النفسي

عباد الله.. أوصيكم ونفسي بتقوى الله. وأعلموا أن من أهم الأعمال لتعميق التقوى بالذات كما ذكرنا في الخطبة الماضية، تزكية النفس، وهذه التزكية تحتاج من المؤمن العمل على أربعة أصعدة في آن واحد:

الأول: معرفة النفس، فلايمكن لك أن تزكي ما لا تعرفه.

الثاني: حسم الصراع النفسي.

الثالث: تنمية الطاقات الإيجابية في النفس.

الرابع: وضع برنامج للمراقبة والمحاسبة الذاتية.
وقد تحدثت في الخطبة الماضية بالتفصيل عن الصعيد الأول، وتطرقت للصعيد الثاني ببعض الإيضاح، ونظرا لأهمية الصعيد الثاني، أقضد به حسم الصراع النفسي. أردت التأكيد خلال هذه الخطبة على ما يتميز به هذا الصراع لنأخذه بكل جدية. فهو صراع حتمي ودائم وشامل كما أنه شديد.
فلا خيار للأنسان للتخلص من هذا الصراع، ولا مجال له للهروب منه \”أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون\”
\”الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا\”
إن البعض من الناس، ولشدة ما ضعفوا أمام ضغوطات هذا الصراع، يتمنون الموت، لكن الموت في حد ذاته محل إمتحان وإختبار أيضا. فليس أمام الإنسان متسع للهروب من هذاالصراع. وما عليه إلا أن يتعامل معه بكل إستعداد والتوسل بأفضل الطرق والأساليب لحسمه بداخله، قبل أن يستفحل ويبدد طاقته النفسية.
وهذا الصراع دائم، يبدأ مع إدراك الإنسان وبستمر معه حتى لحظة وفاته. بلى قد تختلف أدواته وأساليبه لكنه يبقى صراع، قد يتضخم في الجانب الجنسي في مرحلة ما، وحين يضعف الإفراز الهرموني عند الإنسان، قد يظن أنه ارتاح من الصراع ولكن سرعان ما ينفتح له باب على جانب آخر من الصراع.
ولقد قال النبي (ص): \”يشب ابن آدم وتشب فيه خصلتان الحرص وطول الأمل\”.
كما أن هذا الصراع شامل لكل جوانب الحياة عند الإنسان، بدأ من حاجته للطعام وإنتهاء بشهادته على الأحداث السياسية في العالم. ومرورا بكل إثارة يمر بها في حياته. وأية علاقة له بالعالم الخارجي.
لنستمع لآيات القرآن الكريم وهي تحدثنا عن مجالات هذا الصراع:

1- \”إنما أموالكم وأولادكم فتنة\”
2- \”وجعلنا بعضكم لبعض فتنة\”
3- \”ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون\”.
4- \”ونبلوكم بالشر والخير فتنة\”.

وهكذا ترى نفسك في فترة حياتك تعيش في قاعة إمتحان لابد لك فيها من الإجابة على كل سؤال يوجه إليك، وإن من البساطة بمكان أن تعتبر هذه الأسئلة لا معنى لها. وإنها لم توجه إليك بجدية. فلا مزاح بين الله واحد من خلقه.
ألم نسمع في الأحاديث الشريفة، أن ما يدخل الناس النار حصائد ألسنتهم.
إذن كل كلمة محسوبة عليك، فلا تتساهل في إطلاق الكلمات على عواهنها من دون راقبة.
قيل:
يؤتى يوم القيامة بإنسان كتب على جبينه قاتل. فيقول: يا رب ما قتلت أحدا. فيقال له: بلى، لقد زرت فلان المريض، وذكرت له دواء فتناولته ومات.
ويتميز الصراع النفسي بالشدة، وذلك لقربه من الإنسان فهو يعتمل بداخله، فقد تجلس بصف إنسان وتراه صامتا، لكن بداخله صراعا شديدا، من هنا فإن هذا الصراع يحتاج إلى حسم، وما لم يحسم فإنه سيبدد الطاقة النفسية عند الإنسان.
وإن عامل الشدة في هذا الصراع قادم من الطبيعة الثنائية في الإنسان، طبيعة الفجور والتقوى. فكل عمل يريد الإقدام عليه، إما أن يقدم عليه تحت ضغط الفجور أو ضغط التقوى. وهكذا إذا أقدم تحت تأثير أحد هذين الأصلين، ضغط عليه الأصل الآخر لزعزعته عن موقفه. لكن الآلية الحاسمة لهذا الصراع، المتمثلة بجهاد النفس، هي التي توقف الصراع عند حده وتوقف عملية تبديد الطاقة النفسية بشكل نهائي. فتكون نفس الإنسان نفسا مطمئنة مرشحة لدخول الجنة.
\”يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي\”.
إذن.. أيها المؤمنون.. من خلال استعراض خاصيات الصراع النفسي، يتبين لنا أن الإنتصار فيه يحتاج بالفعل إلى إرادة قاهرة، وهذه الإرادة من أعظم صور الجهاد، بل هي الجهاد الأكبر.
وحسب السيد الحيدري:
\”فإن جهاد النفس وهو الجهاد الأكبر الذي يعلو على القتل في سبيل الله تعالى، هو في هذا المقام،أي مرتبة البدن، عبارة عن إنتصار الإنسان على قواه الظاهرية وجعلها تأتمر بأمر الخالق، وتطهير المملكة من دنس وجود الشيطان وجنوده.
وإنما سمي هذا الجهاد بالجهاد الأكبر، لأن الجهاد الذي يخوضه الإنسان (غالبا) مع عدوه الخارجي، هوجهاد مؤقت خاص وغير دائم من جهة، وأنه يعرف فيه عدوه وخصائصه ووسائله وجهة قدومه وهجومه من جهة اخرى، أما في جهاد النفس فأنه جهاد دائمي ما دام الإنسان حيا بل يشمل حتى حالة النوم فضلا عن يقظته، فقد يرى الإنسان في منامه رؤى شيطانية ورحمانية فتعينه الشيطانية على الأعمال الطالحة والخبيثة، وتعينه الرحمانية على الأعمال الصالحة والطيبة، فهو في جهاد دائم مع نفسه.
هنا من جهة ومن جهة أخرى، فما أكثر الأمور التي لا يعرفها الإنسان عن عدوه الداخلي هذا، وكم من الأسرار التي لازالت خافية عنه.
إذن… أيها الأحبة
طالما كان الصراع النفسي ذا خاصية حتمية وشاملة ودائمة وشديدة، فإن آلية حسمه يجب أن تتسم بالصرامة ذاتها. غير ذلك فإن الوصول إلى تزكية النفس أمر صعب المنال، ومن ثم فإن النجاح في تجربة الحياة أمر مشكوك فيه.
\”قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها\”
اللهم أعنا على أنفسنا، بما أعنت به الصالحين على أنفسهم يا كريم…

من الخطبة الثانية: ثلاثة دروس

أيها الأخوة المؤمنون..
دعونا نتوقف في هذه الخطبة أمام ثلاثة أحداث..

الأول: ذكرى مرور عامين على تحرير الجنوب اللبناني.
فمع كبير إعتزازنا وافتخارنا بهذا الإنجاز الكبير للشعب العربي المسلم في لبنان، لابد من القول أن هذا الإنجاز جذير بالإفتداء من قبل الشعوب والحكومات العربية والمسلمة. فقد إستطاعت المقاومة الإسلامية في لبنان، أن تحرر الأرض وتكسب رضى وتأييد الحكومات اللبنانية المتعاقبة، كما أن الحكومات اللبنانية توافقت مع شعبها وفي ذات اللحظة قدمت الإيضاح المقبول لدى دول العالم، وسياسات الدول الكبرى مما منع أي حرج لهذه الحكومة مات في علاقتها الدولية. وذهبت أكثر من ذلك حين دافعت عن هذه المقاومة واعتبرت أن أدراج حزب الله في قائمة الإرهاب حسب تصنيف الخارجية الأمريكية، أمر غير مقبول. وبذلك فإن الإنتصار اللبناني لم يكن إنتصارا عسكريا على الأرض، بل هو إنتصار في إرادة الصراع وحنكة جدير بالإحترام والتقديروالإقتداء.
إن الدرس الذي ينبغي للعالم العربي تعلمه من الإنتصار اللبناني، هو كيفية عمل كل قوة في نطاقها لمصلحة القضايا المصيرية للأمة. فلقد سمح في لبنان للشعب أن يمارس خياراته في أقصى مداها، وهو المدى الذي لم تستطع الحكومة الوصول إليه لتشابك علاقاتها الدولية، وتداخل المصالح مع قوى الضغط العالمي، والشعب حين مارس خياراته حافظ على علاقة لاتوترية مع الحكومة وحاول أن يمارس أقصى درجات التفهم لموقف حكومته. وأن يبرر لها في بعض الأحيان، مع عدم التوقف عن حقه المشروع في تحرير ترابه.
وبذلك إستطاعت المقاومة الإسلامية في لبنان أن تنجز ما لم تستطع إنجازه الحكومات العربية خلال خمسين عاما.
وبعد هذا الذي حدث، يعد من الغباء السياسي لدى حكومات الدول العربية أن ترهن خيارات شعوبها بمواقفها، وقد حان الوقت للفصل بين الموقف الحكومي وخيارات الشعوب في هذه الدول.
كما أن المطلوب من القوى الشعبية في هذه الدول أن تحسن التعامل مع قضاياها المصيرية \”كالقضية الفلسطينية\” بتفعيل كافة خياراتها دون الإصطدام بسياسات حكوماتها الخارجية. قدر الأمكان.

الثاني: فاعلية المقاطعة.
ذكرت بعض المصادر أن خسائر الإقتصاد الأمريكي في الدول الخليجية وبعض الدول العربية بلغت 200 مليون دولار خلال الأسابيع الماضية، وذكر مصدر آخر انها 250 مليون دولار.
وأي كانت الخسائر، وحجم تأثيرها على الإقتصاد الأمريكي، فإن من الأهمية بمكان إيصال صوت الرفض لسياسات التحيز الأمريكي تجاه إسرائيل عبر البوابة الإقتصادية. فالأمريكيون والغربييون بوجه عام يدركون السياسة جيدا عبر البوابة الإقتصادية، حضارتهم قامت على المادة و الإقتصاد، وترعرعت على المادة، ويتوقع لها أن تشيخ وتنهار حين تنهار المادة فيها.
هذه المقاطعة هي أحد الخيارات التي يمكن للشعوب التحدث بها مع سياسة الدول الكبرى دون أن يسببوا حرجا لحكومات بلدانهم، فشعب مصر ليس مجبرا على إقتناء الأدوات المنزلية الأمريكية. ولا أحد يلزمه بتقديم الوجبات السريعة الأمريكية ولا المشروبات الغازية. ولا تدخين السجائر الأمريكية.
في هذا الصدد، يذكر (أحد كتاب الخليج الأماراتية) أن أرباح شركة سجائر أمريكية بلغت 80 مليون دولار في اليوم وأن جزءا مهما من هذه الأرباح يذهب إلى إسرائيل. وكذلك نرى أن 9،6 مليون دولارمن أموال المسلمين تذهب إلى إسرائيل يوميا، نعم يوميا، إذا ما علمنا أن مجموع المسلمين في العالم 2 بليون ومجموع المدخنين 1،15 بليون، منهم 400 مليون مدخن مسلم.
إن من الأهمية بمكان أن تتحول هذه المقاطعة إلى عمل مدروس على الصعيد السياسي والإقتصادي والتربوي.
فأنا وأنت إذا ما تعلمنا أن لا نأكل شيئا في هذا العالم المنفتح تجاريا على بعضه البعض إلا بعد أن نعرف مكونات المنتج ومنتجه وعوائد أرباحه، وعلمنا ذلك لأبنائنا، فإن أبناءنا سيتعلمون مع مرور الزمن أن لا شيء في هذا الوجود ساذج، بل كل شيء يستهدف أمرا، وعلي أن لا أكون أبدا وسيلة تباع وتشترى من قبل تجارالسياسة أو الإقتصاد أو الدين.
لقد تعلمنا في أول سنوات قدومنا إلى الغرب أن لا نأكل منتجا لا نعرف مكوناته وتعلم أبناؤنا منا ذلك. فليس كل ما يؤكل حلال لنا. ونحن لسنا قوما نأكل ما لا نعرف.
واليوم علينا أن نتعلم ألا نأكل إلا ما نعرف الطريق الإقتصادي لهذه السلعة أو تلك. لعل البعض يقول\” أنه تعقيد في الحياة\” لكني أقول لكم وكما ذكرت في الخطبة الأولى.. أننا في قاعة إمتحان وكل شيء في هذه الحياة عبارة عن سؤال يطالبنا بالإجابة الدقيقة. إن الموقف الشرعي يلاحقنا في كل تقلبات حياتنا، وعلينا الإلتزام به مهما كلف الأمر، فغدا سوف نسأل عنه. وأن العمل المدروس في المقاطعة، يعني دراسة المقاطعة في خلال الزمن فلربما أصبحت المقاطعة في يوم ما أمرا لا حاجة له.

الثالث:
الموقف الأوربي من السياسات الأمريكية.
ذكرت التقارير أن زيارة بوش لألمانيا والتي استغرقت 19 ساعة إكتنفتها اجواء خلاف على ضرب العراق، حيث جاهر حزب الخضر الشريك في الحكومة علنيا برفض السياسة الأمريكية وأيدته زوارة الدفاع الألمانية فيما أقر كولن باول بالخلافات.
وقد نزل عشرون ألف متظاهر إلى الشوارع في مسيرة سلمية احتجاجا على موقف أمريكا الذين يقولون انه ينزع إلى الحرب.
وشهدت 60 مدينة ألمانية مظاهرات مماثلة، خاصة فرانكفورت وهامبورغ وميونخ ولايبزبغ.
وقد ذكر أن أكثر من أربعين منظمة شعبية دعت لهذه المسيرات الإحتجاجية.والحق أن هذا الموقف الرافض للسياسات الأمريكية، يحمل دلالات واضحة على وجود الصوت المتعقل والمنصف في الغرب، وأن التيارات السياسية الشعبية لا تتفق مع رأي حكومات البلدان الغربية التي تتردد من الوقوف بوجه الهيجان الأمريكي.
هذا الموقف المستقل يلزمنا معاشر المسلمين المتواجدين في الغرب أن نستثمره لصالح قضايا امتنا المصيرية. ولقد تبين لنا من احداث عدة مرت علىامتنا الإسلامية، أن مواقف بعض الأحزاب العربية، سواء المشاركة في الحكومات، أم خارجها، أكثر إنصاف لقضايا امتنامن مواقف الكثير من الدول العربية والإسلامية. فقد رأيتم كيف أن مواقف بعض الأحزاب الدنماركية من الحدث في أفغانستان أو فلسطين تقترب من مواقف الشعوب المسلمة. فيماتبتعد مواقف حكوماتها.
وهذا يعني إضافة إلى المسؤلية الخاصة التي يتحملها المسلمون المتواجدون في الغرب، أن على القوى الشعبية في العالم العربي والإسلامي مد جسور الحوار والتعاون مع القوى الشعبية والأحزاب المنصفة في الغرب في سبيل الإنتصار لصالح قضايانا المصيرية. والدفاع عن المظلومين في العالم من قبل الإستبداد العالمي.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *