الخطبة الأولى: التقوى في العلاقات الزوجية
الحمد لله جبار السماوات، عظيم البركات، منزل الخيرا ت، رافع السماوات، غافرالخطيئات، معلي الدرجات.
اللهم اني اشهد في يومي هذا وفي كل يوم من أيام حياتي انك أنت الله لا اله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وان محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبدك ورسولك، وحبيبك ونجيبك وخيرتك من خلقك، أدى رسالتك، وحفظ أمانتك، وجاهد فيك حق الجهاد.
اللهم صلي وسلم وبارك وتحنن وتفضل عليه وعلى آله الطيبن الطاهرين.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وان من التقوى مراعاة حدود الله سبحانه وتعالى في العلاقات الزوجية، فالبعض من الناس يعتقد ان الحياة الزوجية سائبة من دون حدود، يحق له فيها ان يصول ويجول حسب رغباته واهوائه، بينما هذه الحياة وان كانت توفر للإنسان المؤمن نصف ما يحتاجه من أسباب تعميق التقوى بالذات، فإنها في ذات اللحظة تمثل محكات يومية لحالة التقوى عند المؤمنين. ومن الممكن للذين لا يراعون حدود الله فيها ان لا يخسروا النصف الذي أحرزوه من التقوى فقط بل يدمرون أي أمل لمستقبل مشرق لهم في الآخرة.
يذكرنا القرآن الكريم بضرورة التقوى في العلافات الزوجية في افتتاح سورة النساء، حين يقول تعالى:
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام ان الله كان عليكم رقيبا)[سورة النساء: الآية 1].
وتشعر الفقرة الأخيرة في الآية المباركة، ان الحياة الزوجية تحت الرقابة الدائمة، وان من التساهل بمكان ان يعتبر الزوجان أنفسهما بعيدين عن هذه الرقابة.
المساواة أمام الله
الرجال والنساء متساوون أمام الله سبحانه وتعالى، لافرق بينهما، ولا فرق في نظرة الاسلام لهما من حيث كسبهما للثواب أو حتى الكسب الاقتصادي المشروع، ولا من حيث حريتهما في الاختيار ولا دورهما في تسديد المجتمع للصلاح. ولا من حيث الخضوع للقانون.
يقول تعالى:
\”والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله ان الله عزيز حكيم\” [سورة التوبة: الآية 71].
ويقول أيضا جل وعلى:
\”ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة و لا يظلمون نقيرا\”[سورة النساء: الآية 124].
وفي آية أخرى، يقول تعالى:
\”للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن\”[سورة النساء: الآية 32].
لكن هذه النظرة المتساوية تختلف في جانبها القانوني حين يقرر رجل وامرأة بناء حياة زوجية مشتركة، مما يترتب على ذلك بناء قوانين جديدة، يفترض في كل من الرجل والمرأة الالتزام بها كحدود لله سبحانه وتعالى، وان خرق أي قانون منها يعد تجاوزا لقوانين التقوى في العلاقات الزوجية.
الرجال قوامون على النساء
يحدد القرآن الكريم أول قوانين التقوى في العلاقات الزوجية، بتعيين القيادة في هذه المؤسسة الجديدة، والتي يتوقع لها في المنظور القريب ان تتوسع عبر عملية الإنجاب.
يقول تعالى:
\”الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم\”
قد يفهم البعض ان إعطاء القيمومة وهي دور القيادة والمسؤولية النهائية في الأسرة للرجل يعد إنقاصا لحق المرأة، ونقضا للنظرة العامة للإسلام للمرأة حين جعلها متساوية والرجل أمام الله سبحانه وتعالى. لكن التأمل الدقيق في هذا الاختصاص للرجل يكشف عن تحميله مسؤولية أعفيت المرأة منها لمنحها فرصة أوسع لممارسة حاجتها العاطفية في الأمومة. لكن مع ذلك ولكي لا تشعر المرأة بالغبن أوضح القرآن الكريم دواعي إلزام الرجل هذه المسؤولية لا المرأة، وهما داعيان:
الأول: للفرق في البناء الشخصي بين الرجل والمرأة، حيث زود الله سبحانه وتعالى الرجل بقدرات اكبر من قدرات المرأة في الناحية الجسدية والنفسية والعقلية. وهذا واضح من خلال التحليلات المخبرية للاثنين. إضافة الى ما قدمه الرجل عبر التأريخ من مساهمات في التطور الإنساني اكثر من المرأة. سواء في المجالات الدينية أو العلمية أو الفلسفية والفنية.
وبالطبع هذا لا يعني ان كل رجل افضل من أي امرأة بل لربما في النساء من هن افضل من الرجال، لكن الأعم الأغلب من الرجال يفضلون النساء. وهذا لا يعنى ان الرجل يعتبر هذا التفضيل له في إعطائه دور القيمومة في العلاقات الزوجية، سببا للتفاخر على المرأة، إذ ان القانون الحاكم عليهما: (ان أكرمكم عند الله اتقاكم) فتفوق أحدهما على الآخر بمدى التزامه بالتقوى سواء في العلاقة الزوجية أو الاجتماعية أو على المستوى الشخصي.
الثاني: الالتزام المالي من قبل الرجل، سواء في تقديم المهر للمرأة أم التزام الإنفاق على الأسرة كلها، وهو التزام لا يخرج الرجل منه حتى آخر أيام حياته. وهذا ما يجعله في حالة كدح دائم خارج المنزل، بينما يلزم هو بتوفير أجواء الراحة والاستقرار لزوجته وعياله.
وفي المحصلة النهائية لهذا الاختصاص بقيمومة الرجل على المرأة في الحياة الزوجية، ينتج تكليف الزم به الرجل بينما التشريف للمرأة.
ثم ان تطور النظم الإدارية في تاريخ الحضارات، أكد ضرورة التنظيم الإداري لأية مؤسسة يراد لها النجاح، وفي حالة عدم وجود هذا التنظيم تفشل هذه المؤسسة، والتنظيم يشمل اللوائح الإدارية مع تحديد الصلاحيات والمسؤوليات للرتب الإدارية، ومن أهم الرتب رتبة القيادة الإدارية. ومن دون شك ان الاسلام حين فرض هذا الدور على الرجل لا المرأة لانه أراد النجاح لمؤسسة الأسرة. وهذا لايعني ان المرأة ليست قادرة على هذا الدور بشكل مطلق، بل ان الاسلام لم يرد إلزامها بذلك لانه سيكون على حساب الوظيفة الأصل التي خلقت من اجلها، وهي الأمومة وتنشئة الأجيال.
اختراق قانون القيمومة
يحدث اختراق قانون القيمومة في العلاقات الزوجية، إما من الزوجة أو من الزوج أو منهما معا.
أما من الزوجة فحين ترى نفسها أقوى من شخصية زوجها، فتتجاوز ما ينبغي للزوج ان يقرر فيه فيما يتصل بقضايا الأسرة، ولربما اعتبرت المرأة ذلك حقا طبيعيا لها، ولقد رأيت بعض النماذج من هذا النوع حيث تقرر المرأة حتى ما يفترض في الرجل تقريره كحق شرعي له مثل تزويج ابنته. ولا شك ان تجاوز الزوجة لهذا القانون يعد اختراقا صريحا لقوانين التقوى في العلاقات الزوجية. من هنا ينبغي للمرأة المسلمة ان تسترضي زوجها في التداخل بين صلاحياته وتقريراتها.
أما الزوج فيخترق هذا القانون حين لا يقوم بمسؤليتة في العلاقة الزوجية ويترك الحبل على الغارب معتبرا نفسه معفيا من أية مسؤولية، ولعل من أهم مسؤوليات القيمومة في العلاقة الزوجية التصدي لقضاء الاحتياجات المعاشية للأسرة.
ويحدث الاختراق من الزوج أيضا حين يتعسف في إدارة العلاقة الزوجية فيلجأ للعقاب الصارم على كل صغيرة وكبيرة، مستغلا ما منحه الله سبحانه وتعالى من قيمومة على هذه المرأة، ولقد درج البعض في الماضي والحاضر على اللجوء للتنبيه الجسدي (الضرب) لفرض الهيمة واثبات الرجولة.
من هنا نرى التحذير الشديد من قبل الشرع المقدس للذين يمارسون هذا الأسلوب.
جاء في المستدرك، في حديث الحولاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، انه قال: (و أي رجل لطم امرأته لطمة أمر الله عز وجل مالك خازن النيران فيلطمه على حر وجهه سبعين لطمة في نار جهنم، وأي رجل منكم وضع يده على شعر امرأة مسلمة سمر كفه بمسامير من نار).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (ما زال جبرائيل يوصيني في أمر النساء حتى ظننت انه سيحرم طلاقهن).
وعن الغوالي، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (أيما رجل ضرب امرأته فوق ثلاث أقامه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق فيفضحه ينظر إليه الأولون والآخرون).
ويحدث خرق قانون القيمومة من الزوجين معا حين يصران على مواصلة الحياة الزوجية دون الاعتناء بهذا القانون الإلهي تحت تأثير الثقافة الوافدة، في النظرة للعلاقة الزوجية بحيث يحق لأي من الزوجين ان يفعل ما يرغب دون التزام بالطرف الآخر. وللأسف ان شيئا من نمط هذه العلاقة ساد في بعض أو ساط المسلمين.
وقبل التحدث عن المعالجات التي يطرحها الاسلام حين حدوث الاختراق لهذا القانون، لابد من القول ان هنالك جملة من القوانين الفرعية التي تندرج تحته،كعدم خروج المرأة من البيت إلا بأذن الزوج، وعدم الصوم المستحب أو التصدق من ماله إلا بأذنه، وعدم استقبال أو الانفتاح في العلاقة مع أي رجل أجنبي إلا تحت معرفته. بل حتى عدم زيارة أهلها إلا بأذنه. مع ان بعض فقهائنا حدد الطاعة فيما اثر على حق الاستمتاع فقط، لكن الأحاديث والروايات تشمل ما ذكر.
فقد جاء في الحديث عن أبى جعفر(عليه السلام) قال: (جاءت امرأة الى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت: يارسول الله ما حق الزوج على المرأة؟ فقال لها: ان تطيعه ولا تعصيه، ولا تصدق من بيته إلا بأذنه، ولا تصوم تطوعا إلا بأذنه، ولا تمنعه نفسها وان كانت على ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها إلا بأذنه، وان خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماوات وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتى ترجع).
وفي حديث آخر (…ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، وعليها ان تتطيب بأطيب طيبها، وتلبس أحسن ثيابها وتتزين بأحسن زينتها وتعرض نفسها عليه غدوة وعشية وأكثر من ذلك حقوقه عليها).
إما حقوق المرأة ضمن هذا القانون، فالنفقة عليها من كسوة واسكان واطعام، والصفح عنها ان تجاوزت حدها.
ورد عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: (جاءت امرأة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسألته عن حق الزوج على المرأة؟ فخبرها،ثم قالت فما حقها عليه؟ قال: يكسوها من العري ويطعمها من الجوع، واذا أذنبت غفر لها، فقالت فليس عليه شيء غير هذا؟ قال(صلى الله عليه وآله): لا، قالت لا والله لا تزوجت أبدا ثم ولت، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ارجعي فرجعت، فقال لها: ان الله عز وجل يقول: (وان يستعففن خير لهن).
علاج التجاوز
نظرا لان القرآن الكريم في الآية المباركة ثبت قيمومة الرجل في العلاقة الزوجية، نجده يقدم فيها كيفية معالجة الرجل لخرق المرأة لهذا القانون، ولربما في ذلك إلماحا ان هذا القانون يتجاوز عادة من قبل المرأة حين تترفع عليه و هو ما سمي بالنشوز، وهو يعني الارتفاع.
يقول تعالى:
\”الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله و اللتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ان الله كان عليا كبيرا\”[سورة النساء الآية 34].
يؤكد الفقهاء والمفسرون ان معالجة النشوز يجب ان تتدرج من الموعظة أولا، فان أجدت اقتصر عليها، وإلا توسل بالهجران في المضجع، إما بإعطاء الزوجة الظهر كتعبير عن الانزعاج لتمردها على قانون القيمومة، أو عبر اعتزال مضجع الزوجية، وما لم يجدي ذلك لجأ الى الضرب الخفيف، قيل بالسواك، وهو في مدلوله النفسي اكثر تأثير من تنبيهه الجسدي.
أما في حالة نشوز الزوج فان الفقهاء يقولون ان للزوجة ان تتوسل بوعظه، ان نفع معه، غير ذلك فلا يمكن لها ان تهجره في المضجع ولا التوسل بالضرب معه فلا ينفع في حالة الرجل، بل عليها السعي للإصلاح معه.
يقول تعالى:
\”وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما ان يصلح بينهما صلحا والصلح خير…\”.
وفي حالة التجاوز من الطرفين، يوصي القرآن الكريم أهل الزوجين بالتدخل للإصلاح بينهما.
يقول تعالى:
\”فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ان يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما\”.
التزام التقوى في العلاقة الجنسية
لاحظ الاسلام الفوارق بين الرجل والمرأة في الإثارة والاستجابة الجنسية، فسمح للرجل ان يتناول الجنس بشكل شبه مفتوح، وحث المرأة (الزوجة) على التجاوب معه كما رأينا في الأحاديث التي تلوتها، ان تستجيب له ولو كانت على ظهر قتب وما ذلك إلا لما يمكن لهذه الحالة ان تؤثر في مستقبل العلاقة بينهما، لكنه لفت نظر الزوج الى ضرورة مراعاة الحالات الخاصة التي تمر بها الزوجة.
يقول تعالى:
\”نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لانفسكم واتقوا الله وأعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين\”.
والتزام التقوى هنا يعني:
1- ان يتجنب الزوج الاتصال الجنسي في فترة جلوس المرأة عن الصلاة، حيث تكون في فترة جسدية ونفسية خاصة.
2- ان يراعى رغم حقه المفتوح في التناول الجنسي، القدرة الاستيعابية لزوجته، ويلاحظ الحالة الصحية من الناحية النفسية والجسدية، فقد لا تكون في حالة استعداد دائم مثله لاختلافهما من الناحية النفسية والجسدية، والتنبه الجنسي.
3- حين لا يجد التجاوب المتوقع، ان لا ينفعل ويخرج عن حدود التقوى فيتعدى عليها، بل هو مأمور بالرفق بها على أي حال، ولربما يجر انفعال الرجل في مثل هذه الحالة للتعدي بالضرب أو التفكير في التخلص السريع من الزوجة حين تمر بفترة إرهاق مؤقت يؤثر على تجاوبها الجنسي، كما يرى عند بعض النساء في أول فترات الحمل.
المعاملة بالمثل
عدى ما حدد من قوانين خاصة بالرجل أو المرأة في العلاقة الزوجية، ينبغي التعامل مع بعضهما على أساس من المساواة، للزوج ما لزوجته وللزوجة ما لزوجها. فليس من حق الزوج ان يفرض عليها الكتاب الذي تقرأ ولا المرجع الذي تقلد، ولا المسجد الذي تصلي فيه، ولا التخصص الدراسي الذي تتعلمه وما شابه ذلك.
يقول تعالى:
\”ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف\”.
نسأل الله سبحانه وتعالى ان يجعلنا من الملتزمين بقوانين التقوى في العلاقات الزوجية، انه سميع مجيب.
\”والعصر ان الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر\”.
الخطبة الثانية: الحاجة الى فاطمة الزهراء (عليه السلام)
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد، اللهم صل على حبيبك ونجيبك وخيرتك من خلقك محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصل يا ربنا على علي أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين وصل على الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وصل على سبطي الرحمة وإمامي الهدى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وصل على أئمة المسلمين وهداة المؤمنين علي ابن الحسين زين العابدين، ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلى ابن موسى الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري والخلف الحجة القائم المهدي، حججك على عبادك و امنائك في بلادك صلاة كثيرة تامة زاكية.
عباد الله، عظم الله أجورنا واجوركم بذكرى شهادة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها افضل الصلاة والسلام، وتعالى في هذا اليوم المبارك نطرح على أنفسنا سؤالا يتكرر علينا كلما تكررت ذكرى مأساة وفاتها صلوات الله وسلامه عليها. ترى ما هي حاجتنا اليوم لهذه السيدة الطاهرة؟ سيما ونحن نعيش حالة حضارية متخلفة، تقدمت علينا فيها الكثير من الأمم المعاصرة، أصبحنا مثل القصعة التي تداعت عليها الأكلة. واصبحنا ونحن الأمة المترامية الأطراف ذات العمق الحضاري العريق، تتلاعب بنا دويلة صغيرة، تذبح أطفالنا ونسائنا ورجالنا تحت ظلام الليل كما حدث قبل يومين في الغارة الإسرائيلية على غزة، واستشهد فيها ما لا يقل عن ستة عشر مواطنا بينهم أطفال لم يتجاوزوا الشهرين من أعمارهم.
الزهراء النموذج
ان أحد العوامل الرئيسية التي أدت الى التخلف الحضاري عند المسلمين، تنكرهم للنموذج الذي يمثل ذاتهم الحضارية،ونتيجة هذا التنكر اضطروا للتمثل بنماذج لا تعبر عن ذات الاسلام وحضارته، فجاءت هذه النماذج مشوهة للنموذج الحضاري الإسلامي وغير قادرة على إعطاء صورة واحدة عنها، فجاءت عملية العودة للحضارة الإسلامية اليوم عرجاء غير قادرة الوقوف على رجليها.
لقد قدم الاسلام النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين، نماذج حضارية يجسدون ذات الاسلام، وأراد للمسلمين اقتفاء اثر هذه النماذج، واعتبر هذا الاقتفاء مسألة مصيرية لكل المسلمين.
\”ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة\”.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله ): (اني تارك فيكم ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي).
ولقد أشار القرآن الكريم في عدد من آياته الى كون الزهراء (عليها السلام) هي النموذج النسوي الذي يقدمه الاسلام.
يقول تعالى:
\”فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعوا أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم و أنفسنا و أنفسكم…\”.
يؤكد المفسرون ان هذه الآية نزلت في المباهلة بين النبي (صلى الله عليه وآله) ونصارى نجران، وحين قام النبي بذلك فقد قدم الشخصيات المرتضية من الله سبحانه وتعالى. وهي النماذج الحضارية عند الاسلام.
إضافة الى العديد من الآيات الأخرى التي تؤكد الزهراء نموذجا للمسلمين، وأقوال أبيها فيها. كقوله عنها (سيدة نساء العالمين) و (أم أبيها) و (سيدة نساء أهل الجنة) وقول سيد الشهداء (عليه السلام) عن أمه (أمي خير مني).
حين كانت الزهراء صغيرة، شاطرت والدها حمل رسالته العظيمة، وحين انتقلت الى دار زوجها قبلت ما قسمه الرسول بينهما ان يتكفل علي بما خارج البيت وتتكفل هي بداخل البيت، وتجنبت الاختلاط بمجتمع الرجال، ولم يرى لها شخصا، لكنها حين رأت ان المسلمين تراجعوا عن الالتزام بوصايا النبي فيما يتصل بقضايا الحكم من بعده، ولم تسمح الضر وف لعلي عليه السلام ان يذكرهم نظرا للحساسية السياسية اتجاهه حينها، رأينا سيدة النساء تخرج من بيتها، وتواجه المؤسسة الرسمية بنقد واضح وتقرعها لتقاعسها عن الأخذ بتعاليم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبذلك تعد الزهراء (عليها السلام) أول مصحح للخلل في المجتمع الإسلامي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله). ولو انصف المسلمون اليوم الزهراء (عليها السلام)، لعادوا إليها يتعلمون منها بناء الحضارة الإسلامية الصحيحة، لكن إسباغ صفة القداسة على تاريخ المسلمين الأوائل من صحابة النبي لازال يمنعهم من النظر لتلك التجربة باعتبارها تجربة إنسانية، لها ما لها وعليها ما عليها. حتى وان كانت نيات القائمين بها في أرقى درجات الطهر والنقاء.
شهادتها (عليها السلام)
حزنت الزهراء على أبيها رسول الله حزنا شديدا و ألمت بها خطوب جليلة فوق الوفاة، كالدخول عليها دارها وكسر ضلعها و إسقاط جنينها، وغصبها فدكا، والحجر على زوجها علي(عليه السلام)، ومرورها على بيوت المهاجرين والأنصار ليلا ونهارا تستنهض هممهم،…حتى أجهدها التعب و أقعدها المرض، ولم يعد جسدها يقوى على حملها فلازمت فراشها.
وحين أحست بدنو اجلها استدعت عليا (عليه السلام) وقالت له: ابن عم انه قد نعيت الي نفسي و إنني لا أرى ما بي إلا إنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة وانا أوصيك بأشياء في قلبي.
أوصته وصيتها، وألحت عليه ابنة النبي ان يدفنها ليلا اذا هدأت الأصوات ونامت العيون وان يعفي موضع قبرها ولا يشهد أحدا من الذين ظلموها جنازتها ولا الصلاة عليها..
وفي آخر يوم من حياتها بدى عليها الارتياح، فقامت من فراشها وغسلت ولدها، وأمرتهم بالخروج لزيارة قبر جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وطلبت من أسماء بنت عميس ان تهيئ لها ماء لتغتسل، فاغتسلت ولبست احسن ثيابها…واضطجعت على فراشها، واستقبلت القبلة، وقالت لاسماء، كلميني فان أجبتك، وإلا فاعلمي اني فارق الدنيا، كانت أسماء تسمع صوتها يتهدج بالقرآن، وسرعان ما انقطع صوتها، فدخلت عليها واذا بها قد فارقت الدنيا، فسلام الله عليها يوم ولدت ويوم مات ويوم تبعث حية شهيدة شاهدة على عصرها وكل العصور.
تتكرر حاجتنا للزهراء (عليها السلام) كلما تكررت ذكرى شهادتها، ذلك أنها ما استشهدت إلا وهي تدافع عن حق هذه الأمة في تقرير مصيرها، حسب النموذج الذي أراده الله سبحانه وتعالى لها وعمل على ترسيخه النبي (صلى الله عليه وآله) طيلة حياته، لكن المسلمين لم يعرفوا قدر فاطمة (عليها السلام) ولا مكانتها، فاضاعوا فرصة ثمينة في تاريخ الاسلام والمسلمين. وسيستمر هذا الضياع ما لم يتوجه المسلمون الى القيمة الحقيقة للزهراء (عليها السلام) ويستكشفوا السر المستودع فيها.
نسأل الله سبحانه وتعالى ان يجعلنا من المقتدين بالزهراء (عليها السلام)،والسائرين على نهجها،والفائزين بشفاعتها يوم القيامة.
ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا.
\”انا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر ان شانئك هو ألا بتر\” صدق الله العلي العظيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.