الخطبة الأولى: التقوى بناء حياة طيبة
عباد الله أوصيكم ونفـسي بتقوى الله.. واعلموا ان للتقوى مردودين،مردود في الدنيا،ومردود في الآخرة،أما في الآخرة فكل الناس يعتقدون ان المتقي يريد ان يحصل من تقواه على جزاء بعد الموت،اقله ان لا يلقى عذابا أخرويا بعد ان جرب المعاناة في الدنيا،ويؤيد الجزاء الأخروي للتقوى مجموعة من الآيات القرآنية تعاضدها كثرة من الاحاديت الشريفة عن النبي محمد (ص) والروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام واقوال الكثيرين من علماء الاسلام من كافة الطوائف.
ففي الذكر الحكيم:
يقول تعالى:\”وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين\”
ويقول أيضا:\”وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى\”
وبقول جل وعلى أيضا:\”ولمن خاف مقام ربه جنتان\”
فكرة خاطئة
يعتقد البعض من الناس ولربما من أوساط المسلمين ان التدين ومن ثم التلبس بسمات المتقين،هو عمل ماضوي وأخروي لا علاقة له بالحياة اليومية للناس؟
ولقد لمست عند البعض من شبابنا الذين تعلموا في مدارس الغرب وعاشوا في كنف الحياة الغربية هذا الاعتقاد قويا،ولربما تكرس عندهم هذا الاعتقاد من خلال التصورات العامة التي نسجها المسيحيون عن الأديان نتيجة الاصطدام الذي حدث بين الحياة والدين في صورة الاصطدام بين العلم والإيمان بين علماء القرون الوسطى وأرباب الكنائس.واستمرت هذه الفكرة عند الأوساط المثقفة في الغرب عن الأديان،فلديهم للدين مجاله وللعلم مجاله،ولا لقاء بين المجالين.فالعلم للحياة والدين للممات،العلم للدنيا والدين للآخرة،وهكذا لا مجال للقيا بينهما،وفي نهاية المطاف ان المتدين المتقي،ينمي تقواه للآخرة لا للدنيا.بمعنى ان مردود التقوى أخروي وليس بحياتي دنيوي.
كما ان الدين ما ضوي بمعنى انه نمط حياة القدماء الذين لم يكن لهم نصيب من العلم ينير لهم الحياة،فاغرقوا في لبوس التقوى هروبا من مجابهة أسئلة الحياة المعقدة.
وهذه لعمري فكرة خاطئة ينبغي منا كموجهين واباء ومثقفين مسلمين ان نعالجها عند أنفسنا أولا ثم عند الجيل الجديد الذي نشأ في هذه البلدان الغربية.
يقول البعض من هؤلاء الشباب الذين يذهبون الى هذا التصور الخاطئ عن العلاقة بين الدين والحياة،لو كانت للدين علاقة بالحياة والرقي والتقدم لأصبحت البلدان التي تتسم بالتدين الظاهري أرقى من البلدان العلمانية الغربية، ولما اضطر آباؤنا للنزوح من بلدانهم الى الغرب حيث الأمن والعلم والحياة المرفهة.
والحق ان هذه المقدمة خاطئة والنتيجة خاطئة أيضا،فالمشكلة في بلداننا ليست في تطبيق الدين،والحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ليست انعكاسا للتفاعل مع الدين هناك،وهذا ما تؤكده الكثير من دساتير البلدان العربية والإسلامية،فضلا عن الواقع البعيد كل البعد التعاليم الدينية في مختلف المجالات،بل المشكلة في الاستبداد السياسي الذي يمنع في بعض البلدان تفاعل الناس مع دينهم حتى في الحدود الدنيا من الأحوال الشخصية.
التقوى حياة طيبة
ان للعمل على بناء التقوى بداخل النفس مردودا على الإنسان في الدنيا قبل الآخرة،فالغاية النهائية من تلبس الإنسان بالتقوى،ان تطبع شخصيته بتلك السمات السوية للشخصية الإنسانية الفاعلة،المجاهدة لاعمار الأرض بحضارة الإيمان والسلام على مستوى كل الأرض.ولاشك ان هذه الشخصية الفاعلة تجني المردود وهي بعد لم تفارق الدنيا.
من هنا جاءت الآيات الشريفة والأحاديث والروايات لتؤكد على المردود الدنيوي للتقوى سواء على الصعيد الشخصي أم المجتمعي أم الكوني.
لنستمع الى القرآن الكريم وهو يتحدث عن هذا المردود،ولنحاول التأمل في كلماته،ولنقارنها مع ما علق بأذهاننا من مفاهيم خاطئة عن العلاقة بين التقوى والحياة في هذه الدنيا.
يقول تعالى:\”فأما من أعطى واتقى،وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى\” واليسر هنا الحياة الميسرة السهلة القائمة على البساطة في النظرة للدنيا لا التعقيد الذي يحولها الى ضنك يومي ترهق الإنسان دونما نتيجة جدية تعود عليه.
ان التعقيد في الحياة اليوم وحسب تقارير العيادات النفسية يعد من ابرز الأسباب للإصابة بالإمراض المبددة للطاقة النفسية للإنسان والتي تقود البعض للتفكير في الانتحار للهرب من هذه الدنيا كحيلة نفسية دفاعية تعبيرا عن العجز عن التفاعل مع متطلبات الحياة المعقدة.
إذن على الصعيد اشخصي حياة الإنسان المؤمن ليست حياة معقدة بل هي حياة ميسرة،يؤكد القرآن الكريم على هذه الحقيقة في آية أخرى إذ يقول:
\”ومن يتقي الله يجعل له من أمره يسرا\”
ولا شك ان اليسر بقود الى الحياة الطيبة الآمنة المستقرة،المستقرة بداخل كيان الإنسان وان كان العالم من حوله متزلزلا.
وفي ذات السياق نجد القرآن الكريم يرسخ هذا المعنى حين يقول \”من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون\”
ومن دون ريب ان الحياة الطيبة هي في الدنيا قبل الآخرة، وقد علق العلامة الطباطبائي في ذيل هذه الآية:\”فلنحيينه حياة طيبة\”(بقوله:الإحياء إلقاء الحياة في الشيء وإفاضتها عليه،فالجملة بلفظها دالة على ان الله سبحانه يكرم المؤمن الذي يعمل صالحا بحياة جديدة غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة،فالآية نظيرة قوله تعالى:\”أومن كان ميتا فأحيينه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس\” فان المراد بهذا النور العلم الذي يهتدي به الإنسان الى الحق في الاعتقاد والعمل قطعا.)
بل تؤثر التقوى حتى على الجانب المعاشي للإنسان، على عكس الاعتقاد السائد من الربط اللاشعوري عند البعض بين الفقر والتقوى، فالمؤمن يتوقع الرزق من خلال سعيه الجاد لتحصيله ويتوقعه من حيث لا يتوقع أيضا، ولأنه التزم أوامر الله سبحانه وتعالى وانتهى عن نواهيه، توكل عليه وأمله في إيجاد المخارج من أية ضغوطات أو ابتلاءات يمر بها.
يقول عز من قائل:
\”ومن يتقي الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب\”
وان ما يميز المتقي عن سواه في نظرته للحياة الدنيا،وهو ما يجعل هذه الحياة عند الإنسان في غاية اليسر والاطمئنان هو امتلاك بصيرة واضحة لهذه الدنيا الأمر الذي يجعل المؤمن قادرا على التمييز بين الحقائق والأوهام بين الصواب والخطا،بين الحق والباطل ومن ثم لا يقع فريسة التضليل،ولا تستهلك حياته الأباطيل ،فيكون جديا في حياته،يذهب وراء الغايات الحقة،ويعمل لتحقيق العمل الصالح لنفسه وللآخرين .
يقول تعالى:
\”يا أيها الذين أمنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا\”
أي ان الله سبحانه وتعالى يجعل الإنسان المتقي قادرا على التمييز بين الحق والباطل في المواقف الحرجة،فيتبع الحق ويجتنب الباطل.وعلى حد تعبير العلامة الطباطبائي:
\”وكما ان له من العلم والإدراك ما ليس لغيره،كذلك له من موهبة القدرة على إحياء الحق واماطة الباطل ما ليس لغيره،وهذا العلم والقدرة الحديثان يمهدان له ان يرى الأشياء على ماهي عليه،فيقسمها قسمين،حق باق وباطل فان،فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذي هو الحياة الدنيا بزخارفها الغارة الفانية،ويعتز بعزة الله،فلا يسذله الشيطان بوساوسه،ولا النفس بأهوائها وهوساتها ولا الدنيا بزهرتها لما يشاهد من بطلان أمتعتها وفناء نعمتها.
ويتعلق قلبه بربه الحق الذي يحق كل حق بكلماته،فلا يريد إلا وجهه ولا يحب إلا قربه ولا يخاف إلا سخطه وبعده،يرى لنفسه حياة طاهرة دائمة مخلدة،لا يدبر أمرها إلا ربه الغفور الودود،ولا يواجهها في طول مسيرها الحسن الجميل،فقد احسن كل شيئي خلقه،ولاقبيح إلا ما قبحه الله من معصيته.
فهذا الإنسان يجد في نفسه من البهاء والكمال والقوة والعزة واللذة والسرور ما لا يقدر بقدر،وكيف لا؟وهو مستغرق في حياة دائمة لازوال لها ونعمة باقية لانفاد لها ولا ألم فيها وكدورة تكدرها،وخير وسعادة لاشقاء معها،وهذا ما يؤكده الاعتبار وينطق به آيات كثيرة من القرآن\”
التقوى سعادة
يمكن لي القول بحق ان المتقي يعيش السعادة في الدارين،في الدنيا والآخرة،ذلك ان مقياس السعادة عند البشر كما توصلت الى ذلك الدراسات النفسية الحديثة هو الرضى عن النفس وعن الحياة بشكل عام،والمؤمن المتقي راض عن نفسه وراض عن حياته بمجملها لانه قبل كل شيء وبعده راض عن خالقه بما اختار له من حياة أو ممات.
\”رضي الله عنهم ورضوا عنه\”
إذن عباد الله نريد للتقوى ان تكون فاعلة في حياتنا الدنيا قبل الآخرة،فتعالوا للعمل لتحصيل مزيد من التقوى وتعميق علاقتنا بالله سبحانه وتعالى.
يقول أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام:
\”اعلموا عباد الله ان التقوى دار حصن عزيز،والفجور دار حصن ذليل،لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه،إلا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا،وباليقين تدرك الغاية القصوى.
عباد الله،الله الله في اعز الأنفس عليكم،واحبها إليكم،فان الله قد أوضح لكم سبيل الحق وانار طرقه،فشقوة لازمة أو سعادة دائمة،فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء،قد دللتم على الزاد،وامرتم بالظعن،وحثثتم على المسير،فإنما انتم كركب وقوف،لا يدرون متى يؤمرون بالسير،ألا فما يصنع بالدنيا من خلق للآخرة،وما يصنع بالمال من عما قليل يسلبه وتبقى غليه تبعته وحسابه\”
الخطبة الثانية: الأمل في خيار الأمة
لا يمكن لي ان أتجاوز الحديث عن الخطاب المنتظر للرئيس الأمريكي حول الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد ان حبس بعض الرسميين العرب أنفاسهم وتصوراتهم بانتظار هذا الخطاب،سيما وقد سبق هذا الخطاب حج لرموز للسياسة العربية للبيت الأبيض. فماذا كانت النتيجة؟
جاء خطاب الرئيس الأمريكي على نحو لم تكن تحلم به إسرائيل،ومن اجل ذلك اقترحوا منح بوش\”وسام الصهيونية \”تقديرا لمقترحاته التي كان يمكن ان تكتب على يد مسؤولين في حزب الليكود.ولقد وصفت صحيفة\” هآرتس \”الإسرائيلية الخطاب بأنه\” انتصار عظيم لأرييل شارون، حيث انه تبنى وجهة نظر الأخير في اكثر قضايا الساعة\”.
ومع ان السلطة الفلسطينية أكدت بخطوات عملية استعدادها لضرب رموز الانتفاضة التي يطالب الإسرائيليون والأمريكيون إيقافها، عبر اعتقال من لم تستطع إسرائيل في عمليات السور الواقي اعتقالهم وفرض الإقامة الجبرية على مؤسس حركة حماس،لتأكد بهذه الخطوات استعدادها للوقوف بوجه شعبها لكسب رضى سيد البيت الأبيض،مع ذلك فان الخطاب المنتظر طالب بقيادة اكثر تجاوبا مع المطالب الشارونية.وفي الوقت الذي قامت فيه الطائرات الإسرائيلية، الأمريكية الصنع باغتيال ستة فلسطينيين، حرقتهم الاباتشي وهم في السيارة،لم تحرك هذه الصورة المؤلمة كلمة إدانة لشارون.في اليوم الذي ألقى فيه الرئيس الأمريكي خطابه.
طالب الرئيس الأمريكي الفلسطينيين\”ان تكون لهم قيادة جديدة، لان هذه القيادة لن تقودهم الى السلام،ويخترقها الفساد،وان يبنوا الديمقراطية التي تعتمد على الصبر والحرية،وان يقيموا المؤسسات،واتفاقيات أمنية جديدة مع جيرانهم\”
لكن هذه القيادة يجب ان لا تعتبر الاحتلال احتلالا،ولاقتل الأطفال الفلسطينيين من قبل جيش منظم إرهابا، ولاهدم البيوت وحرق الأخضر واليابس فسادا إسرائيليا.
والديمقراطية التي أرادها لن يسمح لثلاثة أرباع الفلسطينيين المشاركة فيها،لانهم مع الإرهاب ومن كان مع الإرهاب حسب المعايير الأمريكية لاحرية له ولاديمقراطية.
والمؤسسات التي طالب الفلسطينيين بإقامتها سيوفر هو لها الدرع الإلكتروني لحمايتها من قصف الطائرات والدبابات الإسرائيلية.
اغرب من ذلك انه طالب الفلسطينيين الذين تهدم عليهم بيوتهم بوضع دستور لهم،ولم يتنبه الى ان إسرائيل دولة من دون دستور.
واكثر من عدم اعتنائه بأية مقترحات عربية حملها أصحابها إليه في البيت الأبيض،طالب الدول العربية بالاعتراف الكامل بإسرائيل، وبتطبيع تام معها،فقد قال:\”القادة الذين يريدون ان ينضموا الى مسيرة السلام ـ يقصد بها تصوره للسلام ـ عليهم ان يظهروا تأييدا كاملا للسلام،وعندها نستطيع ان نتقدم نحو السلام، وعندها ننتظر من الدول العربية بناء علاقات دبلوماسية وتجارية مع إسرائيل والتي يجب ان تؤدي الى تطبيع في العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي.انه اشتراط دور حسب تعبير الفلاسفة ولن يأتي بنتيجة لمصلحة الفلسطينيين والعرب أبدا.
والحق ان لا أسف على الرئيس الأمريكي فيما ذهب إليه فهو رجل يبحث عن مصلحته، بل الأسف على الرسميين العرب الذين أملوا كثيرا على هذا الخطاب والأسف الأعظم على السلطويين الفلسطينيين الذين لن يخسروا قضيتهم وعزتهم ومكانتهم فقط بل حتى مصالحهم ومستقبلهم الشخصي،وهذا عرفات الذي أعطى كل ما يستطيع لاسترضائهم تأتي المطالبة الأمريكية باعتزاله، وكأن العمل التحرري والفعل الجهادي والنضالي يستقيل الإنسان منه، وكأن صاحب الحق والقضية يمتلك ان يتنازل عن حقه وقضيته التي هي قضية الأمة كلها.
إذن لاامل إلا في خيار الأمة المتمثل في المقاومة للحلول المفروضة من خارجها، والرجوع لإمكانياتها الذاتية في تقرير مصيرها، وما لم يتنبه الرسميون الى ضرورة تبنى خيار الأمة فان المحافظة على موقعهم الحالي أمر مشكوك فيه.