الخطبة الاولى
تزكية النفس
‘,’
الخطبة الاولى: تزكية النفس
عباد الله.. أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأعلموا أن الناس في سبيل تحصيل التقوى ينقسمون إلى ثلاثة أقسام
القسم الأول: يحاول تحصيل التقوى من خلال تنمية البعد المعرفي عنده، وذلك من عبر العمل الفكري المتمثل في الإطلاع على النصوص الدينية من قرآن وأحاديث للنبي (ص) وروايات لأئمة أهل البيت عليهم السلام، تؤكد عظمة الله وخالقيته وسننه الكونية والطبيعية ومقارنتها بآخر الإنتاج المعرفي عند البشر من فلسفة وعلوم وبذلك يعمق المؤمن من معرفته ويبرهن لنفسه والآخرين أحقانية الإسلام، فيرفع من منسوب التقوى بداخله.
القسم الثاني: يحاول تحصيل التقوى عبر الممارسة العبادية وذلك بالإلتزام الطقوسي بعبادات الإسلام من صلاة وصيام وحج وزكاة، ومحاولة الإغراق الدائم في الممارسات العبادية.
القسم الثالث: يحاول تحصيل التقوى عبر العمل الجاد لتزكية النفس، وتطهيرها من طبيعتها الأولى، والإنتصار للإيمان في صراعها الداخلي بين العقل والهوى، ورغم أن الغالبية من المؤمنين يتوزعون بين القسم الأول والثاني، إلا أن العمل الإستراتيجي لتحصيل التقوى يمثله القسم الثالث.
ذلك لأن المحصلة النهائية للتقوى تتمثل في تزكية النفس. وأن النجاح الحقيقي في فرصة الحياة الدنيا تتمثل في النجاح في تزكية النفس.
وهذا ما تؤكده سورة كاملة في القرآن الكريم.
سورة الشمس:
في هذه السورة المباركة أحد عشر قسما لتأكيد حقيقة واحدة، وهذه الأقسام أكثر أقسام في السور القرآنية، وكما أنها أقسام بأعظم ما يمكن أن يتصوره الإنسان، وبـأخطر المسائل التي حيرت الفكر البشري.
القسم بالله، بالكون، وبالنفس.
فبعد أن تقسم السورة بالله وبالكون وبالنفس، تؤكد \”قد\” \”وهي للتحقيق\” أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها\”.
تؤكد هذه السورة المباركة أن تزكية النفس هي النجاح الحقيقي في تجربة الحياة، وأن الخيبة والفشل في ترك التزكية.
ثم أن السورة المباركة، تأتي بنموذج تاريخي إجتماعي، يبين الأثر السلبي لترك تركيبة النفس. وهذا يعني أن هنالك خطورة إجتماعية لترك التزكية على الصعيد الشخصي.
هذا النموذج من مجتمع ثمود.
\”كذبت ثمود بطغواها\” والطغوى \”الطفيان\” أحد صور دس النفس وعدم تزكيتها.
وكانت نتيجة هذا الطفيان أن كذبت ثمود رسول الله فيها وتعدت على معجزة عصرها، فحق عليها العذاب وانهارت مدينتها. ولا شك أن مصير هذا المجتمع إلى النار، دمار في الدنيا وعذاب في الآخرة.
إذن هنالك خطورة نفسية وإجتماعية ودينية \”مصيرية\” لتزكية النفس.
وهذا ما يثير علينا سؤالا عريضا..
كيف نزكي أنفسنا؟!
ولمحاولة الإجابة على هذا السؤال، هنالك عدة نقاط:
أولا: معرفة النفس.
ففي الحديث الشريف عن النبي(ص): \”من عرف نفسه فقد عرف ربه\”
وعن علي (ع): \”معرفة النفس أنفع المعارف\”.
ويقول (ع): \”من عرف نفسه، فقد إنتهى إلى غاية كل معرفة وعلم\”.
ويقول (ع): \”نظر النفس للنفس، العناية بصلاح النفس\”.
وفي الذكر الحكيم حث على التأمل في آفاق النفس. يقول تعالى.\”سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق\” (فصلت، آية 53)
ويقول جل وعلى: \”وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون\” (الذاريات، 20-21).
إن العمل الجاد في معرفة لنفس سيتكشف لنا عن الحقائق التي ذكرها القرآن بشكل مجمل عن النفس في العديد من سوره، فالقرآن يؤكد في سورة الشمس، أن بداخل نفس كل واحد منا أصلين أو محركين أو دافعين. أحدهما للفجور والآخر للتقوى. وهكذا من خلال التأمل في الذات، سنكتشف بذاتنا أصلا مغذيا لكل الإنحرافات النفسية، والأمراض النفسية. وأصلا للإستقامة والسواء فأصل الفجور يكشف عن إستعداد داخلي للهوى، والحب الأعمى أو البغض الأعمى، والعجب والكبرياء، والطمع والغضب، والجود والأماني.. إلى آخر قائمة الإنحطاط الإنساني…
وأصل التقوى، يكشف لنا عن إستعداد فطري للخير والفضيلة والعدل والحق والحرية واحترام الذات والآخرين والإيمان بالله سبحانه وتعالى، وكل الفضائل الإنسانية.
إن التأمل في الذات سيكشف لنا عن ضعف ذاتي، بحاجة إلى جهاد لتقويته، فالإنسان مخلوق ضعيف كما يقول القرآن الكريم.
كما سيكشف لنا عن قلق فطري يعيشه الإنسان بحاجة إلى تدريبات للتغلب عليه، وإلا فإنه سيشكل بيئة صالحة لنمو الأمراض النفسية المصنفة علميا ودينيا.
\”إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا\”
كما سيكشف لنا عن ميل نفسي فطري للوقوع في الخطأ. \”وما أبرء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي\”.
وكما يقول الإمام زين العابدين (ع): \” إلهي إليك أشكو نفسا بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرضة، تسلك بس مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسها الشر تجزع وإن مسها الخير تمنع، ميالة إلى اللعب واللهو مملؤة بالغفلة والسهو، تسرع بس إلى الحوبة، وتسوفني بالتوبة\”.
إن التأمل في الذات، سيكشف لنا عن وجود طاقة نفسية ضخمة، لها قدرة توسعية وتدميرية، إسمها الهوى. وهذا الهوى هو ما يشكل خطورة لا متناهية على الإنسان حتى اللحظات الأخيرة من حياته. وهو الذي صرع الكثير من الناس. وهو الذي أكد سبحانه وتعالى، أن الإنتصار عليه مؤهل لدخول الجنة.\”وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى\”.
وهذا الهوى هو الذي ينافس عبودية الله في قلب الإنسان، فالبعض يتخذ الهوى إلها من دون الله. ولفد أكدت دراسة عن الهوى، أنه حالة توسعية لها قوة تحريك وإلحاح، ونهم شديد يزداد بالإستجابة.
لكن التأمل في الذات يكشف لنا في الوقت نفسه عن أصل يحرك الخير بداخلنا، ويؤكد على الإيمان بأعماقنا، ويرفع أمامنا البطاقة الحمراء حين ننساق وراء الهوى.
التأمل في الذات يكشف عن وجود قوة عاقلة لا تقل فاعليتها عن فاعلية الهوى.
وهكذا نتكشف على صراع شديد بين قوى الخير والشر بداخلنا، \”لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة\”. وهذا ما يؤكد الطبيعة الثنائية عند البشر، فهو حين يصدر عن الدافع النفسي الأساسي عند كل الناس، المتمثل في البحث عن اللذة وإجتناب الألم، يجد نفسه دائما مدفوعا من طبيعة ثنائية، دافع نحو الخير ودافع نحو الشر.
الخير يدفعه لتحقيق لذته وإشباعها بطريقة مشروعة تحسب حسابا عقلانيا لكل إبعاد الرغبة.
والشر يحركه الهوى، يدفعه نحو حقيقة رغبة دون إعطاء إي إعتبار لأي شيء آخر.
وهنا يحتدم صراع شديد داخل الإنسان، وعلى ضوؤ نتائج هذا الصراع يخسر الإنسان أو يفشل، وإذا نجح نجح في الدنيا وفاز في الآخرة، وإذا فشل خسر الدنيا والآخرة. \”وذلك الخسران المبين\”.
هكذا يشير أمير المؤمنين (ع):\”إن الله ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة، وركب البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله، فهو شر من البهائم\”.
إن العقل غريزة فطرية عند الإنسان، كما الشهوة، وهو الأمل في الوقوف أمام النزعة المدمرة للهوى \”الشهوة\”، عن علي (ع) :\”للنفوس خواطر الهوى، والعقول تزجر وتنهر\”، \”للقلوب خواطر سوء، والعقل يزجر منها\”.
ثانيا: حسم الصراع الداخلي
لكل واحد منا الكثير من الحوارات الذاتية، التي لا يعلمها إلا الله، ولكل واحد منا تجربته الخاصة في طريقة إنهاء هذه الحوارات.
بعض هذه الحوارات خفيفة، وبعضها حامية الوطيس، كالصراع بين رغبتين شديدتين.
إن تزكية النفس تتمثل في التعود على إلية حاسمة للصراع الداخلي لمصلحة الخير والحق والإيمان.
البعض لا يعطي أهمية لآلية حسم الصراع، بل يترك الحل للزمن، ويتعامل مع الإثارات الخارجية والداخلية وكأنها إثارات عفوية لا معنى لها. وإن الحياة مجرد لعبة جميلة سرعان ما تنقضي.
الحق، أن الصراع الداخلي بالإنسان، والقادم من دافع الهوى الداخلي، وتحريك الإثارات الخارجية، إنما هو صراع غائي ومقصود.
فأنا وأنت وكل الناس، نعيش في قاعة إمتحان وإختبار وكل ما يدور بداخلنا من صراع أو نراه في الخارج من إثارات هي أسئلة ينبغي لنا الإجابة عليها بكل دقة. \”أحسبتم أنما خلقناكم عبثا، وإنكم إلينا لا ترجعون\”
يقول أمير المؤمنين (ع):\” الخطايا (الشهوات) خيل شمس (الفرس الذي يمتنع عن الإنقياد) حمل عليها أهلها، وخلقت لجمها، فتقحمت بهم النار، ألا وإن التقوى مطايا ذلل، حمل عليها أهلها، فأوردتهم الجنة\”.
ويقول أمير المؤمنين (ع):\” العقل صاحب جيش الرحمن، والهوى قائد يش الشيطان والنفس متجاذبة بينهما، فأيهما يغلب كانت في حوزته\”. \”العقل والشهوة ضدان، مؤيد العقل العلم، مزين الشهوة الهوى، والنفس متنازعة بينها، فأيهما قهر كانت في جانبه\”.
من هنا يلزم الإنسان أن يتبع آلية لحسم هذا الصراع، وما لم يقرر ذلك بجد، فإنه بشكل لا شعوري سيميل إلى إتباع الهوى.
يقول الإمام علي (ع):\” أكره نفسك على الفضائل، فإن الرذائل أنت مطبوع عليها\”.
ويقول النبي (ص):\” ليس الشديد من غلب الناس، ولكن الشديد من غلب نفسه\”.
ويقول (ص):\” أشجع الناس من غلب هواه\”.
وقد روي عن الإمام الصادق (ع):\” من ملك نفسه إذا غضب، وإذا رهب، وإذا اشتهى، حرم الله جسده على النار\”.
وفي قول آخر: \” من ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب، وإذا اشتهى، و إذا غضب، وإذا رضي حرم الله جسده على النار\”.
تقوية الإرادة:
أن التوصل إلى آلية حاسمة للصراع بين الفجور والتقوى بداخل الإنسان المؤمن، بحاجة إلى تدريب لتقوية الإرادة، وهذا التدريب يبدأ من الهين إلى الشديد.
فالذي يريد مقاومة الرغبة الجنسية عليه مقاومة الرغبة في الطعام أولا، ثم يجرب نفسه في الإمتناع عن الجنس الحلال. كما أن الإبتعاد عن الجنس الحرام محتاج إلى الإبتعاد عن ما يؤدي إليه.
هكذا يرشدنا القرآن الكريم، على غض النظر كمقدمة للإبتعاد عن الوقوع في الجنس الحرام.
إن القرار الحاسم للصراع الداخلي، هو ما أشار إليه الإمام الخميني (قدس) بالعزم، في كتابه \”الأربعون حديثا\”.
\”والعزم الذي يتناسب وهذا المقام هو أن يوطن الإنسان نفسه ويتخذ قرارا بترك المعاصي وبأداء الواجبات، وتدارك ما فاته في أيام حياته…\”
إن المؤمن الراغب في تزكية نفسه لتعميق التقوى بداخله، عليه أن يكون مستعدا لمعركة طويلة. وهذا الإستعداد وهذه الإرادة والعزم، هو ما أطلق عليه النبي (ص) بجهاد النفس.
فقد جاء عن علي عليه السلام أنه قال:\” إن الرسول (ص) بعث سرية، \”فلما رجعوا قال:\” مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر\”.
قيل:\” يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟\”
قال:\”جهاد النفس\”
ثم قال:\”أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه\”
ثالثا: تنمية الطاقات الإيجابية في النفس عبر تهذيبها.
ورابعا: وضع برنامج للمراقبة والمحاسبة الذاتية.
وهذا ما يحتاج إلى خطبة مستقلة نتعرض لها في جمع قادمة إن شاء الله.