الخطبة الأولى: التقوى في بعدها الاجتماعي
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله.. وان من التقوى ان يحكم المؤمنون التزامهم بتعاليم الله سبحانه وتعالى، في الصعيد الفردي، والصعيد الاجتماعي، وان من الفهم الخاطئ عند بعض المؤمنين ان يعتقدوا ان التقوى حالة فردية، فتراهم يستغرقون في الأعمال الفردية التي تعمق التقوى بداخلهم، وينأون بأنفسهم عن المجتمع بدعوى التفرغ لتطهير النفس، وانهم يرون الاختلاط بالناس إخلالا بتقواهم.
ومع ان الاسلام يريد للإنسان المؤمن ان يعمل على تعميق التقوى بداخله، ويفضل له ان يعتزل الناس في بعض الوقت لينظر الى نفسه ويحاسبها ويزكيها، إلا انه أراد له في ذات اللحظة ان يتفاعل مع إخوانه المؤمنين ويشكلون تيارا عريضا يلتزم التقوى في حيوية المجتمع البشري. وهكذا تتحول التقوى الى تيار اجتماعي يعكس نمطا خاصا من الحياة البشرية في حالة تفاعلها مع تعاليم السماء،ويصبغ سمات الحضارة الإسلامية، الحضارة التي تعمر الأرض بالإيمان والسلام.
انظروا عباد الله الى تشريع الصلاة مثلا، فرضها الله سبحانه وتعالى فرضا فرديا على كل فرد فرد من المسلمين، لكنه حرض تحريضا شديدا على صلاة الجماعة، و أعطى المصلين من الثواب ما لايمكن تصوره،ولم يقبل للمؤمنين العزلة الطويلة للمجتمع بحجة التفرغ للعبادة والصلاة.
جاء في الحديث عن انس قال:
\”توفي ابن لعثمان بن مظعون فاشتد حزنه عليه حتى اتخذ من داره مسجدا يتعبد فيه،فبلغ ذلك رسول الله(ص) فقال:
يا عثمان ان الله تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله.ثم قال يا عثمان:من صلى صلاة الفجر في جماعة ثم جلس يذكر الله عز وجل حتى تطلع الشمس كان له في الفردوس سبعون درجة بعد مابين كل درجتين كحضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة، ومن صلى الظهر في جماعة كان له في جنات عدن خمسون درجة مابين كل درجتين كحضر الفرس الجواد خمسين سنة، ومن صلى العصر في جماعة كان له كأجر ثمانية من ولد إسماعيل، كل منهم رب بيت يعتقهم، ومن صلى المغرب في جماعة كان له حجة مبرورة وعمرة متقبلة، زمن صلى العشاء في جماعة كان له كقيام ليلة القدر\”
ولمزيد من التأكيد على القيمة الاجتماعية للصلاة فرض الله سبحانه وتعالى علينا صلاة جماعة في الأسبوع مرة واحدة،وهي صلاة الجمعة،التي لاتصح إلا جماعة.
يقول تعالى:\”يا أيها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون\”
القرآن يؤكد البعد الاجتماعي للتقوى.
حين نراجع آيات الذكر الحكيم التي تبين بصيرة التقوى،نجد ان اغلب هذه الآيات تتحدث بصيغة الجمع لا الإفراد،ولعل في ذلك إشارة الى ضرورة تحول التقوى الى تيار اجتماعي،وهذا يعني ان التقوى هي الروح التي تدفع المجتمع نحو الله سبحانه وتعالى،في إقدامهم وأحجامهم أو التزامهم أو تركهم،فالمجتمع كله يتحرك في صوب واحد،سواء في بعده السياسي أم الاقتصادي أم الجهادى أم الثقافي التوعوي،وهذا ما يقودنا الى القول ان المجتمع لن يكون موحدا إلا اذا جعل التقوى محوره.
بداية يؤكد القرآن الكريم في أطول سوره، ان الوعي به لن يصل إليه إلا المتقون، وهم تيار اجتماعي تجمعهم مجموعة من المواصفات الخاصة، والتي تمارس اجتماعيا كما يفهم من لغة الخطابي الجمعي التي استخدمها القرآن الكريم وهو يتحدث عن هذا التيار.
يقول تعالى:
\”ا ل م،ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين،الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون،والذين يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون،أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون\”
ان المتقين القادرين على استيعاب بصائر الذكر الحكيم هم الذين يلتزمون طقوس الصلاة لله مع بعضهم البعض، ويؤمنون بالغيب بأجمعهم،قد استسلم عقلهم الجمعي للغيب المهيمن عليه الله سبحانه وتعالى، وينفقون ضمن نظام واحد، ويؤمنون بطريقة واحدة، ويوقنون بما لا يدع مجالا للشك بما بعد الموت، وهؤلاء الموحدون المتحدون، لاشك انهم الفائزون في الدنيا والآخرة.
العبادات والبعد الاجتماعي.
حين يتوجه الخطاب القرآني للناس يدعوهم للعبادة يدعوهم بمجموعهم، ليؤدوا العبادة بصورة جمعية لا أفرادا فقط، وحين يمارس الناس الخضوع لله في صورة العبادات التي فرضها عليهم حينها ينالون التقوى ووقتها تتحول التقوى الى تيار اجتماعي عريض،يعيش بها الناس السعادة في الدارين.
يقول تعالى:
\”يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون\”
إننا يمكن لنا ان نلاحظ البعد الاجتماعي في العبادات،حين ننظر الى طريقة أدائها، فهي لابد ان تؤدى بالتزام جماعي من المؤمنين كافة، ويتمثل هذا الالتزام إما في التوقيت، زمان محدد، واما في المكان، واما في طريقة الأداء.
فالصيام الواجب على الناس كافة،لايمكن لاحد ان يأتي به في زمان يختاره هو،بل لابد له من الصيام في الزمان المحدد.
يقول تعالى:
\”يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون\”
\”أياما معدودات …\”
كذلك الحج لايمكن للمسلم ان يأتي به أنى شاء،بل في مكان محدد وزمان محدد،يؤدى بصورة جماعية،فالمسلمون يطوفون مع بعضهم لا فرق بين عالم وحاكم وتاجر ومحكوم وجاهل وفقير،ويقفون في عرفات والمشعر الحرام مع بعضهم،وينفرون من منى مع بعضهم.
يقول تعالى:
\”يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج…\”
\”الحج اشهر معلومات…\”
وحتى الصلاة اليومية يؤديها كل المجتمع في وقت واحد،ويستحب له ان يأتي بها جماعة،لتنشر روح التقوى في المجتمع كله،وقد أكد الاسلام بشكل كبير على بناء المساجد واعمارها بالحضور،باعتبار المساجد المكان الذي يغذي فيه المؤمنون التقوى بداخلهم.
قال تعالى:
\”إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا\”
يقول الإمام الصادق عليه السلام:
\”عليكم بالصلاة في المساجد\” وقد روي عنه القول المأثور:\”لا صلاة لجار المسجد\”
ولعنا نلمس قيمة البعد الاجتماعي في التقوى من خلال عبادة الصلاة، حين نرى الاسلام يفضل صلاة المتزوج على صلاة الأعزب، وما ذلك إلا لان المتزوج يمثل وحدة اجتماعية، وهي الأسرة وهذه الأسرة تعد النواة الاجتماعية الأولى، تؤد الكثير من الوظائف الاجتماعية.
فقد ورد عن النبي(ص):
\”ركعتان يصليهما متزوج افضل من سبعين ركعة يصليها أعزب\”
أهل البيت يحرضون على البعد الاجتماعي
من هنا أيها المؤمنون،لا غرابة اذا رأينا روايات أهل البيت(ع)تؤكد على البعد الاجتماعي،واعتباره من أهم روافد التقوى ومصاديقها.
فهذا الإمام الباقر عليه السلام يقول لاحد أصحابه:
\”ياخيثمة أبلغ من ترى من موالينا السلام و أوصهم بتقوى الله العظيم وان يعود غنيهم على فقبرهم وقويهم على ضعيفهم وان يشهد حيهم جنازة ميتهم وان يتلاقوا في بيوتهم فان لقيا بعضهم حياة لامرنا،رحم الله من أحيا أمرنا\”
انظروا كيف ان البعد الاجتماعي للتقوى يحي الدين في أعماق القلوب،ويجعل نهج أهل البيت عليهم السلام سائدا بين الناس.
ولعل بعض الناس لا يعير اهتماما لبعض الأعمال الاجتماعية ويحسبها لاعلاقة لها بالإيمان والتقوى،بينما نجد أئمة أهل البيت يؤكدون ان التواصل الاجتماعي ممارسة من صميم التقوى.
يقول الإمام الصادق عليه السلام:
\”من زار أخاه في الله قال الله عز وجل إياي زرت وثوابك علي،ليست ارضي لك ثوابا دون الجنة\”
ويقول عليه السلام:
\”ما زار مسلم أخاه المسلم في الله ولله إلا ناداه الله عز وجل أيها الزائر طبت وطابت لك الجنة\”
ويقول الإمام الباقر (ع):
\”ان العبد المسلم اذا خرج من بيته زائرا أخاه لله لا لغيره وكل الله عز وجل به سبعين ألف ملك ينادونه من خلفه الى ان يرجع الى منزله،ألا طبت وطابت لك الجنة\”
إذن عباد الله، للتقوى في حياة المؤمنين بعدا اجتماعيا لابد لنا من التنبه إليه، بصف الاهتمام بالبعد الشخصي في التقوى، وان عملنا ذلك فسنكون من الذين يحضون بالسعادة في الدارين.
وكما يقول أمير المؤمنين على ابن أبى طالب عليه السلام:
\”واعلموا عباد الله ان المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم،ولم يشاركهم أهل الدنيا في أخرتهم،سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت،وأكلوها بأفضل ما أكلت،فحظوا من الدنيا بما يحظى به المترفون واخذوا منه ما أخذه الجبابرة والمتكبرون ،ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح\”
الخطبة الثانية: المسلمون في الغرب في ظل التشدد
اختلف وضع المسلمين كثيرا في الغرب، بعد ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية من أحداث منذ الحادي عشر من سبتمبر الماضي، وحسب تقارير غربية فقد ارتفعت حدة الكره للمسلمين عما قبل الأحداث.
واصبح مألوفا لدينا ان نسمع أنباء اعتقال بعض الناشطين الإسلاميين هنا وهناك، وآخرها اعتقال ستة مسلمين في ألمانيا قبل يومين، إضافة الى محاكمة آخر في إيطاليا.
وحسب تقرير صدر عن مرصد المراقبة الأوروبي نهاية مايو 2002، \”ان اكثر من دولة أوروبية شهدت في الآونة الأخيرة حملات محمومة لإلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام والمسلمين، ففي هولندا تتعرض المحجبات لعنف كلامي متزايد جعل الكثيرات منهن يعدلن عن الحجاب حين يخرجن من منازلهن، وفي الدنمرك حدث ارتفاع كبير في العنف ضد المسلمين سواء الجسدي منه أو الكلامي، ولا سيما التهديدات بالقتل، وارتفعت حدة العنف في السويد، وفي أسبانيا ازدادت مشاعر العداء للمغاربة، كما لوحظ تبدل في الموقف حيال المسلمين في إيطاليا لاسيما في مناطق الشمال والوسط. وفي بريطانيا تعرض مسلمون الى إهانات أو اعتداءات وهوجمت مساجد، وراجت رسائل تهديد معادية على الإنترنت، صورت المهاجرين وطالبي حق اللجوء من المسلمين بأنهم يمثلون خطرا شديدا.
وقد ساهم الإعلام بشكل كبير في تغذية هذا الشعور، من ذلك ما نشر في صحيفة الصاندي تايمز للكاتبة ميلاني فيليس،ان المسلمين اصبحوا طابورا خامسا، ويشكلون جيشا من آلاف الشباب الغاضب الذي ينتظر الفرصة لتدمير المجتمع الذي قام بإيوائهم.
إضافة الى ما نشهده من برامج في المحطات الغربية متحيزة فيما يتصل بالأحداث في العالم الإسلامي.
ومما يجعل الموقف معقدا نمو التيار اليميني في اغلب الدول الغربية، ووصول بعض الأحزاب اليمينية للحكم كما في الدنمرك، مما أدى الى صدور مجموعة من التشريعات التي تضيق الخناق على المسلمين في الغرب.
أيها المؤمنون. إننا نمر في لحظة تاريخية حرجة من تاريخ المسلمين في الغرب،وهذا سينعكس على مستقبل الاسلام في هذه البقعة من الأرض، وفي تقديري أننا نتحمل مسؤولية خاصة في هذه اللحظة التاريخية، وفي ضوء موقفنا سيتحدد هذا المستقبل، سيما وان المسلمين سبق لهم ان حكموا جزءا من هذه البقعة الجغرافية، لمدة سبعة قرون ونصف ثم خرجوا من الأندلس ولم يتركوا من الاسلام إلا أطلالا وزخارف.وعداءا عميقا للإسلام.
ينبغي لنا قبل كل شيء ان لا نكون سببا لتصعيد هذه الحملة سواء من خلال التصرفات اللامسؤلة أو الأفكار المتطرفة التي تنظر الى هذا الغرب باعتباره مباحا في ماله وعرضه ودمه.
ثم ان علينا كمسلمين متواجدين على هذه الأرض، ان ننفتح على التيار العقلائي في هذه المجتمعات، سيما ان الغرب يتميز بتطور التيار العقلائي فيه وهو الذي طبع حضارته. ويرجع له الفضل في تفادي هذه الحضارة للانهيار.
كما ينبغي لنا التحول الى شريحة فاعلة في هذه المجتمعات، تساهم في البناء الإيجابي، يحسب لها حسابها في المعادلات المجتمعية، لا ان نكون على الهامش.