خطبة الجمعة ليوم 12/07/2002


الخطبة الأولى:التقوى في بعدها الحضاري

عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى..واعلموا ان التقوى كما أنها حالة فردية،تطبع شخصية المؤمن،وكما أنها حالة اجتماعية تحدد نمط العلاقات الاجتماعية في التجمعات الإيمانية،كذلك هي حالة حضارية تصبغ التجمعات البشرية المتدينة. وإذا كان الأصل في الحضارة وجود مجموعة بشرية في منطقة ما،يدب التعاون فيما بينها لاعمار تلك الأرض ليعيشوا عليها في أرقى صور الحياة،وينعكس ذلك في المنتج الثقافي لهذه المجموعة على حد فهم الفلاسفة الفرنسيين،أو تنعكس في شتى صنوف الحياة كما ذهب الى ذلك الفلاسفة الألمان.فان الاسلام دعى كل المجموعات البشرية وعلى أية بقعة جغرافية،سواء على ضفاف الأنهار أو شواطئ البحار كما في الحضارات القديمة،أو في وسط الصحراء أو بين ضجيج المدن الصناعية الصاخبة،دعاهم جميعا الى السعي الحثيث لبناء الحضارة الإيمانية ،عبر التعارف بينهم ثم التعاون على الفعل الحضاري البناء والصورة الحياتية الراقية المتنافسة لكسب الشرف الحقيقي المتمثل في الكرامة الإلهية لهذه المجموعة البشرية أو تلك.
دعونا أيها المؤمنون نتوقف في هذا اليوم المبارك، لنتأمل كتاب الله العزيز، وهو يرش النور في دروب الحضارات، لالتزام التقوى في مسيرتها،لتصل الى أرقى صور الإنتاج البشري المتفاعل مع الوحي السماوي، المكمل لعبقريات العقول البشرية والمجيب على الأسئلة التي توقفت عندها.

التقوى محور التنافس الحضاري
بداية كل حضارة فكرة تتبناها المجموعة البشرية التي تعيش في منطقة ما، فتشعل هذه الفكرة لهيب الحماس لدى هذه المجموعة للبناء والاعمار للارتقاء بمستواهم المعيشي، والإبداع في مضامير الحياة.فقد تكون الفكرة عصبية للجنس البشري الذي تنتمي له وقد تكون اعتزازا بالتفوق في مجال ما كالتفوق الجسدي أو العقلي، أو الكدح لتراكم الثروات الطبيعية، أو أية فكرة أخرى تنتمي الى المصادر الشهودية التي تعيشها البشرية. ولا شك ان أي فكرة منها يمكن لها ان تدفع هذه المجموعة أو تلك الى البناء الحضاري،لكنها ستكون محدودة ومؤقتة من ناحية، ومؤسسة لتناقض مع مجموعة حضارية أخرى، ومن ثم فإنها تحمل النقيض للفعل الحضاري الخلاق. أما القرآن الكريم فقد أسس لمحرك قادر على دفع البشرية كلها باتجاه البناء الحضاري دون ان تشعر أية مجموعة بشرية أنها على تناقض معه، وهذا المحرك هو التكريم الإلهي للبشرية.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى الشرف والكرامة الإلهية حافزا للتدافع البشري في البناء الحضاري، ولابد لهذا الحافز ان يتحول الى فعل بشري على الأرض ويكون مائزا بين إنسان وآخر وبين تجمع وآخر وبين حضارة وأخرى، فكان هذا الفعل هو التقوى.
يقول تعالى: \”يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير\” الحجرات/13
يسجل المفسرون على الآية المباركة أنها وجهت الخطاب الى كل الناس وليس للمسلمين فقط،ثم إنها أكدت ان اصل البشر من ذكر وأنثي، لكي تمنع عنصرية الجنس فلا ينبغي للحضارة ان تكون ذكورية النزعة ولا أنثوية، ثم أكدت ان التنوع البشري كشعوب وقبائل، إنما هو محفز قوي للتعارف، لاكتشاف إمكانات الآخر للتعاون معه لاعمار الأرض، لا للتفاضل والتعالي، ثم أوضحت بما لا يدع مجالا للشك ولا يحتمل أي فهم خاطئ ان الفعل الإنساني الذي يميز البشر عن بعضهم،ويستحقون في ضوئه التكريم الإلهي، إنما يتمثل في الالتزام الدقيق بأمر الله سبحانه وتعالى والانتهاء عن نواهيه، انه التقوى. وليس من السهولة جعل التقوى محركا للتنافس البشري في البناء الحضاري، بدل المحفزات الطبيعية الغريزية، كالقبيلة والعشيرة والقوم والدم واللون وما شابه ذلك،فعامل الشد في هذه قوي جدا،من هنا نجد ان النبي (ص) اجهد نفسه كثيرا في تدريب الناس على اعتماد التقوى محورا للتنافس بدل المحفزات الطبيعية الغريزية.
نقل المفسرون في أسباب نزول الآية المباركة،ان النبي\”ص\”في فتح مكة أمر بلالا بالأذان فأذن،فقال عتاب بن اسيد بن أبي العاص:الحمد لله الذي قبض أبي حتى لايرى هذا اليوم،وقال الحارث بن هشام:ما وجد محمد\”ص\” غير هذا الغراب الأسود حتى يؤذن له.
وحتى آخر سني حياته صلوات الله وسلامه عليه كان يحرض على ترك العصبية الجاهلية،فقد ذكر الرواة انه خطب رسول الله (ص) بمنى في وسط أيام التشريق (حين تجمع الناس من كل البلاد) وهو على بعير فقال: \”أيها الناس ألا ان ربكم واحد،وان أباكم واحد،ألا لافضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي،ولا لاسود على احمر،ولا احمر على اسود إلا بالتقوى،إلا هل بلغت؟قالوا:نعم،قال:ليبلغ الشاهد الغائب.\”

ان التأكيد على التقوى في قبال الحوافز الطبيعية الأولية،لا يعني أبدا إلغاءها ونفيها المطلق،إنما ان لاتكون عائقا في طريق البناء الحضاري،والذي يعني تعميم الخير للبشرية كافة،دون اختصاصه بفئة دون أخرى.
من هنا نجد الرواية عن الإمام زين العابدين عليه السلام:\”ان العصبية التي يأثم عليها صاحبها ان يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين\”

أزمة الحضارة الغربية
تؤكد دراسات عدة واقوال لفلاسفة غربيين وغيرهم ان الحضارة الغربية تعاني من أزمة حادة يمكن لها ان تقوض هذه الحضارة، فقد ذهب اشبنجلر الى ان هذه الحضارة وصلت الى طور الشيخوخة وأنها غير قادرة على تجديد شبابها فهي كالعجوز التي تنتظر لحظة الوفاة، ويقول اشفستر إنها حضارة تفتقد المبرر الأخلاقي لاستمرارها، أما تونبي فيقول إنها حضارة من دون رسالة، وان تقوقعها على ذاتها وفي قومياتها سر اندفاعها نحو الهاوية، والغريب ان بريق هذه الحضارة الخارجي لا يزال قويا، بينما عجلة الأفول تتسارع في داخلها. ان سر ذلك يكمن في الفكرة التي قامت عليها هذه الحضارة، فهي قد قامت على المادة، تراكم الثروة وترعرعت بترعرع المادة، وستنهار سريعا حين تتداعى المادة، وهذا واضح في التغيرات الكبرى التي تحدث في المجتمعات الغربية حين تغير الأوضاع الاقتصادية، فتحاول الاستعانة بالقوة لتدارك التراجع الاقتصادي، ولا يبدو ان في كل مرة ستنجح في ذلك.

معايير التقوى في الحضارات
هنالك ثلاثة معايير يرسمها القرآن الكريم للحضارة التي تريد ان تكون حضارة عالمية تستوعب البشرية كافة،وتدفع كافة المنضوين تحتها للتنافس الإيجابي في البناء الحضاري الخلاق.نجد هذه المعايير في سورة البقرة في الآية177.
في هذه الآية المباركة يبين القرآن، ان البر وهو التوسع من الخير والإحسان، ويمكن لنا اعتباره هنا بالفعل الحضاري، يتمثل في مجموعة من القيم في المعيار الأول وهو المعيار الاعتقادي الذي يشكل المرجعية الفكرية لأية حضارة، وفي المعيار الثاني يبين الالتزامات العملية التي تلتزمها الحضارة كلها، وهي دلائل التزام بالمرجعية الفكرية، وهذه المعايير نسميها بالمعايير العملية، وفي المعيار الثالث يوضح القرآن الكريم القيم الأخلاقية الضابطة لحضارة الإيمان، والدالة على صدقها في التزاماتها، الداخلية والخارجية.
يقول تعالى: \”ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين واتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة واتى الزكاة والموفون بعهدهم اذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون\” البقرة/177.
فتحت المعيار العقائدي تندرج العقائد التالية:
1/الإيمان بالله.
2/الإيمان باليوم الآخر.
3/الإيمان بالملائكة.
4/الإيمان بالوحي السماوي المركز في الكتب السماوية و أوثقها القرآن الكريم.
5/الإيمان بكافة الأنبياء والمرسلين،وخاتمهم النبي محمد(ص).

وتحت المعيار العملي تندرج الالتزامات التالية:
1/الإنفاق على الحلقات الضعيفة،في المجال الحيوي الحضاري.
2/إقامة الصلاة.كتعبير لالتزام الحضارة في خضوعها لله سبحانه وتعالى.
3/أداء الضرائب المحددة .

وتحت المعيار الأخلاقي تندرج الأخلاقيات التالية:
1/الوفاء بالعهود والمواثيق.
2/الصبر في مختلف الضر وف التي تمر بها الحضارة.
وحسب بعض المفسرين، فان الالتزام بهذين الخلقين يكفيان لدفع أي مجموعة للالتزام بأية أخلاقيات أخرى، فهما اصلان للكثير من السلوكيات الفاضلة.

الحضارة النموذج
من اجل هذه المعايير التي التزمتما المجموعة البشرية التي عاشت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم استحقت ان يخلدها القرآن الكريم ويعتبرها النموذج الحضاري للبشرية.
يقول تعالى: \”كنتم خير أمة أخرجت للناس\” آل عمران/110.
ويقول تعالى عن الحضارة النموذج: \”وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا …\” البقرة/143.
قال صاحب المعين:الوسط من كل شيء أعدله أفضله، ووسطية الأمة إشارة الى نموذجيتها، وجدارتها بالاقتداء. وبذلك فان الحضارة الإسلامية تمثل الوسط النموذجي، وهذه الوسطية تعني النظرة المتوازنة بين المادة والروح، وحق الفرد وحق الأمة، والاعتزاز بالذات والانفتاح على الآخر.
وكما ان النبي (ص) نموذج لابناء الأمة الإسلامية للاقتداء، كذلك الأمة الإسلامية نموذج للحضارات الأخرى.
نسأل الله سبحانه وتعالى ان يوفقنا للالتزام بالتقوىنحتى نكون نماذج إيجابية، نعكس التحضر الإيماني ونحن نعيش في وسط الحضارة الغربية المنافسة اليوم لحضارة السماء.

الخطبة الثانية:العراق تحت ضلال الفتنة

عباد الله..أرى ان من واجبي ان أتحدث في هذا اليوم عن ما يتوقع ان يحدث في المستقبل القريب في العراق،ذلك ان العراق يمثل بلدا مهما بالنسبة للامة الإسلامية عامة وللموالين لاهل البيت بشكل خاص. فلقد كان العراق مهدا للحضارات في غابر الدهور،كما انه مثل المنطلق الحضاري للإسلام،ولذلك اختاره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عاصمة له،وهو يمثل اليوم نقطة مفصلية في التحولات السياسية في المنطقة،إضافة الى اختزانه لتاريخ أئمة أهل البيت عليهم السلام،حيث المراقد المقدسة.

بعض ما تناقلته الصحف
نقلت صحيفة نيو يورك تايمز عن مسئولي دفاع بارزين أمس الأول قولهم ان المخططين العسكريين الأميركيين يبحثون إمكانية ان يكون الأردن قاعدة انطلاق تشنها القوت الجوية وقوات الكومندوز اذا ما قررت الولايات المتحدة شن هجوم على العراق، واوضحت الصحيفة الأمريكية ان وثيقة أعدتها القيادة المركزية الأميركية تقضي بتوجيه ضربات جوية وبرية وبحرية للعراق من ثلاث اتجاهات غير ان التفاصيل الخاصة بالدول التي ستشارك في العملية لم تظهر بعد. وكانت ذات الصحيفة قد كشفت من قبل ان الجيش الأميركي اعد وثيقة عسكرية ترسم الخطوط العامة لهجوم على العراق برا وجوا وبحرا يشارك فيه 250 ألف جندي، كما نشر الصحف البريطانية تفاصيل عن مخطط الهجوم الذي قالت ان بريطانيا ستشارك فيه بثلاثين ألف جندي. وذكرت صحيفة صنداي تلغراف ان الفرقة البريطانية ستدعمها قوة من 50 طائرة مقاتلة ومجموعة حاملة طائرات تضم فرقاطات ومدمرات وغواصة.
كما جمعت أميركا معارضين عراقيين في وزارة الخارجية قبل يومين لبحث إقامة سلطة قضائية انتقالية بعد الإطاحة بصدام. وقد حضر الاجتماع 20 من رجال القانون العراقيين في المنفى، وهذه الجلسة هي الأولى في سلسلة من الندوات التي تنظمها وزارة الخارجية بالتوازي مع تصعيد الإدارة الأميركية الاتجاه للتخلص من صدام.
وذكر اثنان من الذين تخلفا عن الاجتماع ،ان سبب تخلفهما ان وزارة الخارجية مستعدة لقبول أي نظام حكم جديد في العراق حتى لو كان حكما عسكريا،وان هنالك عدم استعداد مخيف للالتزام بإحداث تغيير جذري في العراق.
وعن توقيت الهجوم نقل عن ابن صدام انه يتوقعه ان يكون في الخريف المقبل.كما كشف تقرير لصحيفة الجارديان البريطانية عن خطة تقسيم العراق الى إقليمين فيدراليين الأول عربي يشمل مناطق وسط وجنوب البلاد والثاني كردي في الشمال وسيكون لكل إقليم مجلسه البرلماني ورئيسه غير ان بغداد ستضل هي المسيطرة على الأمور الخاصة بالأمن الداخلي والجيش الفيدرالي.

المشهد السياسي
يأتي هذا التصعيد بعد تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية على الصعيد السياسي والإعلامي،فقد رمى بوش بأخر ما عنده من توجه نحوها في خطابه الأخير، الذي أبرئ ذمته فيه وعلق القضية على السنارة الفلسطينية، واعتبر ان قيام الدولة وحل الأزمة بيد الفلسطينيين أنفسهم وان المدخل تغيير عرفات بشخص آخر.
أما الأوروبيون فان صمتهم عن التصعيد الأميركي، وكذلك روسيا، للتخوف من ان لاتكون لهم حصة لا في مستقبل العراق فحسب بل في المنطقة كلها، ولذلك لم تر مواقف أوروبية أو روسية تقلل من الاندفاعة الأميركية، أما بريطانيا فهي صريحة في تبعيتها للولايات المتحدة الأميركية.
وبالنسبة للدول العربية فقد انحسرت حتى تصريحاتها، ويبدو ان التخوف من الغضب الأميركي اخذ موقعه من السياسية العربية اتجاه العراق. إضافة الى جشع بعض الأطراف الإقليمية في المغانم ما بعد العدوان.

فتنة حقيقية
ان هذه الأجواء أجواء فتنة حقيقية للشعب العراقي، وللحركة الإسلامية في العراق، ولدول المنطقة وللمسلمين جميعا.
ذلك ان الشعب العراقي عانى في الثلاثين سنة الماضية من أحداث كارثية نتيجة السياسات الخاطئة، وحاول تغيير وضعه بنفسه، في انتفاضات وتمردات لكن القبضة الحديدية على الحكم كانت أقوى من محاولات التغيير، فاصبح يتمنى أي تغيير ولو أدى الى إنقاذه من الوضع الاقتصادي والصحي المتردي، فهو كالغريق الذي يتشبث بأي حشيش. لكن ان يأتي التغيير على يد من ساهم في ذبحه اكثر من مرة، هذا ما يصعب على الشعب العراقي القبول به.
والحركة الإسلامية التي قدمت كل غال وعزيز في سبيل تغيير النظام، لاشك إنها تنتظر لحظة التغيير، لكن هذه الحركة تشترك مع كل الإسلاميين في العالم في رؤية المارد الأمريكي انه لا يريد خيرا للإسلام والمسلمين، بل انه يرى في الحركة الإسلامية عنوانا للتمرد عليه.من هنا يصعب على الحركة الإسلامية التفاعل مع أي مشروع تغيير في العراق يكون رائده الاستكبار الأميركي.
والدول العربية والإسلامية، حتى وان كانت تتحفظ على سياسات صدام حسين في العراق فإنها تحدس ان تغيير الحكام على الطريقة الأمريكية الجديدة نذير شؤم قد يصل إليها في يوم ما، سيما بعد النجاح في التجربة الأفغانية، والإصرار على تكرارها مع عرفات والقضية الفلسطينية.
من هنا فان ما يمكن القيام به في أجواء الفتنة هذه هو الوقوف مع الشعب العراقي وتجنيبه مخاطر الموت والدمار. واعتزال أي فعل يؤدي الى المشاركة في الحرب على هذا الشعب المسلم.
اللهم جنب شعب العراق شرور الكوارث والحروب واحمي المؤمنين بدروعك الحصينة يا كريم.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *