محمد(ص) في القرآن (3)
حديث الجمعة الذي ألقاه سماحة الشيخ عبد المجيد العصفور حفظه الله، بمسجد الإمام الهادي بمدينة عيسى بتاريخ:21/5/2004م الموافق:2/ربيع2/1425هـ.
‘,’
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.اللهم صل وسلم وزد وبارك وترحم وتحنن على حبيبك ونجيبك وخيرتك من خلقك محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.
وصل يا رب على علي أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين، وصل على الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وصل على سبطي الرحمة وإمامي الهدى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وصل على أئمة المسلمين وهداة المؤمنين، علي بن الحسين زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري والخلف الحجة القائم المهدي حججك على عبدك وأمنائك في بلادك صلاة كثيرة تامة زاكية.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وتعالوا نواصل في هذا اليوم المبارك تأملنا في الآيات التي ذكر فيها النبي (ص) بالاسم في القرآن الكريم. إذ نتوقف اليوم عند الآية الثانية من سورة محمد(ص).
حيث يقول تعالى:
\”والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم\” 2/محمد.
لكن قبل أن نتحدث عن هذه الآية المباركة، سنتحدث عن السورة لتي وردت فيها هذه الآية، وهي باسم نبينا محمد (ص).
سورة محمد (ص) من السور المدنية وعدد آياتها ثمان وثلاثون آية، وقد سميت بسورة محمد لورود اسم النبي (ص) في الآية الثانية منها، وذكر بعض المفسرين أن للسورة اسما آخر وهو القتال، والمتتبع لآيات السورة الكريمة يرى أنها تجعل من الجهاد في سبيل الله محورا لكشف الشخصية الحقيقية التي يقف وراءها المجاهدون المؤمنون، وهو -أي القتال- يكشف حقيقة الكفار والمنافقين أيضا.
ومن خلال ذلك تبين السورة المستقبل لكل فريق من هؤلاء. وتؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن المؤمنين بالله سبحانه وتعالى، الملتزمين بنهج النبي محمد (ص) والمطيعين لأوامره هم أصحاب المستقبل المشرق في الدنيا وفي الآخرة.
في السورة تأكيد على ضرورة تصدي المؤمنين لمسؤولياتهم في الحياة، و التزام الطاعة والصبر والبذل في سبيل الله.. وفي حالة عدم تصديهم فإن الله سيستبدل بهم قوما غيرهم لا يكونوا أمثالهم.
وقد ورد في فضلها حسب مجمع البيان عن أبي ابن الكعب، أن النبي (ص) قال:\”من قرأ سورة محمد (ص) كان حقا على الله أن يستقيه من أنهار الجنة\”.
وروى أبو بصير عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال:\”من قرأها لم يدخله شك في دينه أبدا ولم يزل محفوظا من الشرك والكفر أبدا حتى يموت فإذا مات وكل الله به في قبره ألف ملك يصلون في قبره ويكون ثواب صلواتهم له ويشيعونه حتى يوقفوه موقف الأمن عند الله ويكون في أمان الله وأمان محمد (ص)\”.
وقال أيضا (ع):\”من أراد أن يعرف حالنا وحال أعدائنا فليقرأ سورة محمد (ص) فإنه يراها آية فينا وآية فيهم\”.
ومن دون شك أن الأئمة عليهم السلام، حين يحثون على قراءة هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم إنما يعنون القراءة المتأملة التي يخرج منها القارئ بالبصيرة والهدى. لا القراءة المستعجلة التي لا تأمل ولا تدبر فيها.
عباد الله.. بعد أن أخذنا فكرة عامة عن سورة محمد (ص)، لنعود للتحدث عن الآية التي ورد فيها اسمه الشريف (ص)، محمد. وهي كما ذكرت الآية الثانية من السورة المباركة.
\”والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم\” 2/محمد.
إنك لتجد مقابلة لدى أغلب المفسرين بين هذه الآية والتي قبلها أي الآية الأولى من سورة محمد(ص)، قوله تعالى:
\”الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم\” 1/محمد.
وهي آية تؤكد أن أعمال الكافرين، ووقوفهم بوجه الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، لن تحقق غاياتها وستضل الهدف التي يرجوه منها أصحابها، ويضرب المفسرون مثلا بالمشركين الذين كانوا يحشدون ضد نبي الإسلام محمد (ص) وأتباعه. وكانوا في سبيل ذلك ينحرون الإبل ويوزعونها على الفقراء لجذبهم لصفهم، لكن النتيجة كانت التحاق الفقراء بالنبي (ص) لأنهم وجدوا أنفسهم معه، لا مع الذي أرادوهم حطبا في معركة مصالحهم.
وبينما تضل أعمال الكفار، تؤكد الآية الكريمة الثانية والتي ورد فيها اسم النبي(ص) محمد، أن المؤمنين بالله سبحانه وتعالى، العاملين الصالحات، والملتزمين بتعاليم النبي (ص)، هؤلاء سيصحح الله سبحانه وتعالى أخطاءهم وسيصلح أحوالهم بما يؤدي إلى سعادتهم في الدنيا وفلاحهم في الآخرة.
\”والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم\”
ويرى بعض المفسرين، أن ذكر الإيمان بما نزل على نبي الإسلام (ص) بعد ذكر الإيمان بصورة مطلقة، تأكيد على تعليمات هذا النبي العظيم ومنهاجه، وهو من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وتبيان أن الإيمان بالله سبحانه وتعالى لا يتم أبدا بدون الإيمان بما نزل على النبي (ص).
أما العلامة الطباطبائي فيرى: أن المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات مطلق من آمن وعمل صالحا، فيكون قوله تعالى: \”وآمنوا بما نزل على محمد\” تقييدا احترازيا لا تأكيدا وذكرا لما تعلقت به العناية في الإيمان. ويقول عن المقطع \”وهو الحق من ربهم\” جملة معترضة.
وقد ذكر المفسرون أن معنى البال في قوله تعالى:\”أصلح بالهم\”، البال الحال والشأن والبال القلب، لذلك قالوا: أي أصلح حالهم في معاشهم وأمر دنياهم كما هو عن قتادة، وقيل أصلح أمر دينهم ودنياهم بأن نصرهم على أعدائهم في الدنيا ويدخلهم الجنة في العقبى.
وبعد هذه المقارنة بين المؤمنين والكافرين، يقول المفسرون، كما في مجمع البيان:\”ثم بين سبحانه لم فعل ذلك ولم قسمهم هذين القسمين فقال تعالى:\”ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم\” 3/محمد\”.
وعليه فإن الإضلال بالنسبة للكافرين والإصلاح بالنسبة للمؤمنين، راجع لأن الفريق الأول سار وراء الباطل فسقط وخسر، بينما الفريق الثاني وهم المؤمنون ساروا وراء الحق فنجحوا في الدنيا وفلحوا في الآخرة.
أيها الأحبة المؤمنين..
بعد هذه البصيرة القرآنية، لنا أن نتساءل عن الفرق بيننا كأتباع للنبي (ص) وبين الذين عاشوا معهم، وكانوا مصداقا للذين كفّر الله عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم. فعاشوا السعادة في الدنيا، بقلوب راضية مطمئنة. ثم انقلبوا إلى ربهم راضين مرضيين.
أولئك النفر من المؤمنين، جاءتهم الدنيا راكعة بين أيديهم، وخضعت لهم ممالك الأرض في الشرق والغرب، وكانوا مثلا يقتدي بهم الآخرون في نظم حياتهم وتحضرهم.ولا يزالون محل دهشة لدى المؤرخين والعلماء في سرعة التحول الذي صنعوه في واقعهم والبيئة المحيطة.
أما اليوم فإن المسلمين أقل الناس في هذا العالم تحضرا، وأهونهم على الآخرين كرامة، وأرخصهم دماءا، الذلة سمة بارزة عليهم، \”فما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا\”.
ولم تعد هنالك حرمة لمقدساتهم، ولا مكانة لمراجعهم، ولا عزة لحكامهم وزعمائهم.
وهذه مؤشرات على التراجع الشديد عند المسلمين لتخلفهم عن نهج محمد (ص). وهو ما يستلزم عودة جادة لهذا النهج إن أدرنا الله سبحانه وتعالى أن يكفّر سيئاتنا ويصلح بالنا.
وإذا أردنا أن نتحدث بلغة الحقائق على الأرض في يومنا هذا، ولحظتنا التاريخية هذه. فإنا سنقول:
أقدس بقعة عند المسلمين بعد مكة والمدينة محتلة، وقد قام رئيس وزراء العدو قبل بضع سنوات خطوة رمزية حين دخل المسجد الأقصى، في دلالة على استهتاره واستهزائه بمقدسات المسلمين. واليوم هذا المجرم يذبح في فلسطين من أكبر زعمائهم إلى أصغر أطفالهم، وخلال هذه الأيام الثلاثة فقط قتل 55 فردا بين شيخ طاعن وامرأة وطفل، وهدم مئات البيوت في رفح، ويهدد حتى بقتل رئيس السلطة الفلسطينية عرفات. ولا يأبه بالقوانين والأعراف الدولية.
فما الذي قمنا به حيال ذلك؟!
لاشيء..
أرض العراق.. أرض المقدسات، وفي أقدس مدينتين عند المسلمين بشكل عام، والشيعة بشكل خاص، تدنس من قبل المحتلين الأميركيين، خطوة رمزية أيضا يتجاوزون ما سمته المرجعية الشيعية بالخطوط الحمراء، وتصبح حياة عشرات من المرجعيات الفعلية والمرجعيات الطالعة مهددة، وتتعرض قباب الأئمة الأطهار للقصف.
تعذيب في السجون واعتداءات على أعراض العراقيات والعراقيين، وقتل للمدنيين العزل بدم بارد، وقبل ليلتين فقط يقتل ما يزيد على واحد وأربعين عراقيا بين رجل وامرأة وطفل وشيخ في حفل زواج على أيدي القوات الأمريكية، وكأن هؤلاء البشر لعب يتسلى بتحويل أفراحهم إلى أتراح الجنود الأمريكيون.
فما الذي قمنا به حيال لك؟!
لا شيء..
وحين أقول لا شيء فإن ذلك يعكس عجزا إسلاميا عربيا، على الصعيد الرسمي والشعبي، السياسي والديني.
وهنا يتوجب علينا طرح السؤال: كيف نستطيع الخروج من هذا الوضع المذل، وهذه الحالة البائسة؟!
والجواب: بالرجوع إلى هدي القرآن الكريم. الذي يؤكد في هذه الآيات المباركات أن التزام الحق هو الذي يصحح الأخطاء ويستمطر رحمة الله.
وإن اتباع الباطل في أي مجال من مجالات الحياة هو ما يدفع بأي جماعة إلى حبط عملها وتلاشيه وإن كان حسنا في حد ذاته.وهذا يستدعي منا المراجعة الجدية لكل شئوننا في ضوء معايير الحق،سواء كانت شخصية أو اجتماعية،دينة أو سياسية،على الصعيد الرسمي أو الشعبي،فان صمدت والا أعدنا ترتيبها وفق هذه المعايير،غير ذلك فان الأمل في تصحيح أوضاعنا يصبح ضعيفا بل معدوما.
وهذه هي البصيرة التي نأخذها من القرآن الكريم:
\”ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم\” 3/ محمد.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.