حسب القرآن الكريم فان هنالك ثلاثة مستويات للاستجابة النفسية لما يواجه الإنسان من إثارات متنوعة ومتعددة.
الأول:الاستجابة الغريزية.
وهو ما يشير إليه قوله تعالى:
\”وما أبرئ نفسي ان النفس لامارة بالسوء\” يوسف/53.
الثاني:الاستجابة القلقة.
وهو ما يشير إليه قوله تعالى:
\”ولا اقسم بالنفس اللوامة\” القيامة/2.
الثالث:الاستجابة المطمئنة السوية.
وهو ما يشير إليه قوله تعالى:
\”يا أيتها النفس المطمئنة \” الفجر/27.
‘,’
في المستوى الأول يستجيب الإنسان غريزيا لما يواجهه من إثارات الحياة باعتباره كائنا طبيعيا بدائيا،يعطي لنفسه المجال للتمدد كحالة غازية،لايمكن ان تحد بحد أو تقيد بقيد.
وغالبا ما تكون هذه الاستجابة خاطئة لكونها استجابة غريزية فطرية،لم تأخذ بعين الاعتبار إنسانية الإنسان التي تميزه عن الكائنات الأخرى،ولا البيئة الإنسانية والطبيعية التي تشاركه الحياة،ناهيك عن التكاليف الدينية،التي يراد لها إعطاء الإنسان معان غائية لحياته المؤقتة على وجه الأرض.
هذا المستوى من الاستجابة،أكده القرآن الكريم في تثبيته لقول زوجة العزيز حين سئلت عن موقفها من يوسف.أو لقول يوسف في تبرئة موقفه من نساء مصر،على اختلاف أقوال المفسرين
يقول تعالى:
\”وما ابرؤ نفسي ان النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربي\” يوسف53.
ويلاحظ على هذه الآية المباركة أنها استثنت فئة، من النفس الأمارة \”إلا ما رحم ربي\” وهذا الاستثناء لربما يرشدنا الى ان التخلص من الاستجابة البدوية الطبيعية بحاجة الى تأهيل خاص يتحصل عبر التعرض لمناخات معينة.نستكشفها في الأسطر القادمة في استقراء سريع لآيات القرآن الحكيم التي تتحدث عن مناخات الرحمة.
ويمكن لنا ان نجد الاستجابة الغريزية عند الإنسان من خلال القرآن الكريم،حينما نراه يوصف طريقة استجابته للإثارة السارة والإثارة الضارة.
\”اذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا\” المعارج
فالجزع ليس هو دائما الاستجابة الصحيحة للإثارة الضارة، كما ان المنع ليس هو الاستجابة الصحيحة لكل إثارات الخير.
كما يمكن لنا ان نفهم هذا المستوى من الاستجابة من خلال الأحاديث والروايات التي تصف النفس باعتبارها خطرا على مستقبل الإنسان في الدنيا والآخرة.
قد تكون الاستجابة البدوية الطبيعية باعثة على الشعور بالرضى في المراحل الأولى،لكنها تستدعي فيما بعد إثارات جديدة من الذات أو الآخرين أو حتى البيئة المحيطة،تكبل الإنسان من كل ناحية،فتبدد طاقته الحيوية.
من هنا اصبح من واجب الإنسان السعي لتأهيل نفسه للتغلب على ميله الطبيعي من الوقوع في السوء،وكما ان القرآن الكريم كشف له عن هذه الحقيقة كذلك أرشده لمناخات الرحمة التي يمكن له من خلالها تعديل استجابته وتصحيح سلوكياته وردود أفعاله.
بين أيدينا مجموعة من الآيات الكريمة التي تحدد لنا هذه المناخات.
1/الوحي السماوي، متمثلا في القرآن الكريم والكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء،وغير خاف ان التعرض لمناخ هذا الوحي يعني استلهام طريقة الحياة من خلاله.
يمكن لنا مراجعة الآيات التالية لمعرفة هذا المناخ:
الأعراف/203_204.يونس/57.النمل76_77.القصص43.العنكبوت51.
يس.45 .الدخان6 .الجاثية20 .
يقول تعالى:
\”وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما اتبع مايوحى إلى من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون\” الأعراف/203.
ويقول في الآية التي بعدها:
\”وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون\” الأعراف/204.
ويقول في سورة يونس:
\”يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين\” يونس/57.
وفي سورة النمل يقول جل وعلى:
\”ان هذا القرآن يقص على بني إسرائيل اكثر الذي هم فيه يختلفون،وانه لهدى ورحمة للمؤمنين\” النمل/76_77.
وفي سورة القصص في إشارة الى وجود الرحمة الإلهية في الكتب السماوية التي نزلت على الرسل قبل نبينا محمد (ص) كالنبي موسى يقول تعالى:
\”ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون\” القصص/43.
ويقول تعالى في سورة العنكبوت:
\”أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ان في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون\” العنكبوت/51.
وفي سورة الدخان يقول تعالى عن القرآن الكريم:
\”رحمة من ربك انه هو السميع العليم\” الدخان/6.
وفي سورة الجاثية يقول تعالى:
\”هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون\” الجاثية/20.
وفي مطلع سورة لقمان،يؤكد القرآن الكريم على انه رحمة للمحسنين.
يقول تعالى:
\”ألم،تلك آيات الكتاب الحكيم،هدى ورحمة للمحسنين\” لقمان/1_3
والحق ان القيمة التي يوفرها هذا المناخ تتمثل في المعنى الذي يسبغه الوحي على حياة الإنسان ومن ثم تتحول كل إثارة من إثارة ساذجة أو إثارة ذات معنى سلبي يهدد النفس الى إثارة إيجابية معمقة لإيمانه ودافعة له نحو مزيد من الاطمئنان.
2/التمسك بالنبي محمد وآل بيته الطاهرين.
يستبين لنا هذا المناخ من خلال الآيات التالية:
التوبة61 .هود73 .النور56 .الحديد28 .
يقول تعالى:
\”ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم\” التوبة/61.
وفي سورة النور يقول تعالى:
\”واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون\” النور/56.
وفي سورة الجديد يقول تعالى:
\”يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم\” الحديد/28.
ويقول تعالى:
\”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين\”
ويقول عن أهل البيت عليهم السلام،في سورة هود:
\”قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت انه حميد مجيد\” هود/73.
ان ما يوفره مناخ التمسك بالنبي المصطفى محمد وآله الطاهرين يتمثل في الاسوات النموذجية،التي واجهت اشد إثارات الحياة قسوة بكل رحابة صدر واطمئنان،ولاشك ان الإنسان بحاجة الى قد وات يتعلم من خلالها الاستجابة ألا مثل لما يتعرض له من إثارات،وإذا كان القران الكريم قد قدم التصور الغائي للحياة،ليعطي الإثارات فيها معان إيجابية ،فان النبي محمد (ص) وآله الطاهرين من خلال سيرتهم الذاتية قدموا النموذج الإيجابي للتفاعل مع إثارات الحياة.
كما ان تتبع سيرة الأنبياء في تاريخ البشرية يدعم المناخ الرحماني في الاقتداء بالنبي وآله الطاهرين. تراجع الآية111من سورة يوسف.
3/البناء الأسري.
ففي مناخ الأسرة المستقرة يمكن للإنسان ان يشعر بالاستقرار النفسي، وهذا الاستقرار سينعكس على طريقة مواجهته لاثارات الحياة، وفي هذا المناخ بالإضافة للإشباع الجنسي الذي يودي جوعه الى الكثير من المز الق النفسية والاجتماعية،فانه يوفر للإنسان غطاء عاطفيا يستوعبه في لحظات الشدات النفسية الحرجة.
يرشد القرآن الكريم للتعرض لرحمة الله سبحانه وتعالى في مناخ الأسرة المستقرة، في الآية الكريمة. الروم21 .
يقول تعالى:
\”ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون\” الروم/21.
ولابد من الإشارة هنا الى ان عدم الإشباع الجنسي أو الإفراط في تناوله خارج الأطر المشروعة، كما ان الفراغ العاطفي كثيرا ما يؤدي الى الإصابات النفسية العميقة التي تحتاج الى علاج طويل الأمد.
4/بناء المجتمع الإيماني المتعاضد.
وهذا المناخ يوفر أجواء حماية للفرد والأسرة، ويخفف من حدة الإثارات الموجهة لهما،كما انه يقدم آليات مواساة ومعاضدة للفرد والأسرة للتغلب على الضغوطات النفسية التي تفرضها إثارات الترغيب أو الترهيب.وغير خاف ان المجتمع الذي يتوفر على ذلك،يشعر اتباعه بالأمان النفسي،ومن ثم الاستقرار الاجتماعي.
يقدم لنا القرآن الكريم هذا المناخ من خلال الآيات المباركات. التوبة71 . التوبة99 .
يقول تعالى:
\”والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله ان الله عزيز حكيم\” التوبة/71.
ومما لاشك فيه ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقامة الصلاة وايتاء الزكاة واطاعة الله ورسوله من ابرز سمات المجتمع الإيماني التي يرسمها القرآن الكريم.
بل ان القرآن الكريم يعتبر السعي لاصلاح العلاقات داخل المجتمع المؤمن مما يوفر مناخا اجتماعيا يستمطر الرحمة الإلهية.هذا ما نجده في الآية الكريمة العاشرة من سورة الحجرات .
يقول تعالى:
\”إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون\” الحجرات/10.
وهكذا يفعل أيضا الإيمان والعمل الصالح كما في الآية30 من سورة الجاثية.
يقول تعالى:
\”فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين\” الجاثية/30.
5/بناء علاقة منسجمة مع الطبيعة.
فالعلاقة بين الإنسان والطبيعة علاقة كونية توافقية فكما انه يؤثر فيها كذلك هي تؤثر فيه،وان عدم الانسجام بينه والطبيعة يودي الى اختلال في هذه التوافقية الكونية، وهذا الاختلال ينعكس أولا على الاستقرار النفسي، فيبدأ الشعور بالتوتر بالتسرب إلى داخل الإنسان ومن ثم ينعكس على طريقة مواجهته لاثارات الحياة.وهذا ما يلاحظ على الذين يتعرضون الى حرمان من النوم ليلا اوعلى اقل تقدير عدم الإشباع منه، أو الذين تضطرهم الظروف للعمل ليلا والنوم نهارا.
ان التوافق مع الطبيعة أحد المناخات التي توفر الاستقرار النفسي ومن ثمة تودي الى ردود فعل إيجابية في مواجهة إثارات الحياة. هكذا يرشدنا القرآن الكريم في الآية73من سورة القصص.
يقول تعالى:
\”ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون\” القصص/73.
ومن الحسن الإشارة هنا الى ان التكاليف الدينية اليومية التي الزمها الله سبحانه وتعالى لعباده جاءت متوافقة مع النظام الطبيعي للكون،فالإنسان المسلم يبدأ نهاره بالصلاة ويستفتح ليله بالصلاة،وفي الوقت الذي فرض عليه العبادة ظهرا وعصرا،لم يفرض عليه ذلك ليلا،بل ترك الأمر لتطوعه،وهذا الفعل له تأثير عميق على النفس في علاقتها بالله سبحانه وتعالى.
ومن التوافق مع الطبيعة تعريض الإنسان نفسه لحركة الرياح المتغيرة لأنها تحمل في هبوبها ذبذبات رحيمة حسب ما يفيده القرآن الكريم في سورة الروم46. وبالتأكيد تحتاج هذه الآية المباركة الى تأمل علمي دقيق.
يقول تعالى:
\”ومن آياته ان يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون\” الروم/46.
6/الاستغفار والإحسان.
من المناخات التي تستمطر الرحمة الإلهية، والتي تخلق مقاومة نفسية للاستجابة الخاطئة لما يواجه الإنسان من إثارات في حياته، طلب الاستغفار من الله سبحانه وتعالى، والإحسان في التعامل مع الناس.هذا ما ترشد له الآيات 46سورة النمل.والاعراف56 .ولقمان 3 .
يقول تعالى:
\”قال يقوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون\” النمل/46.
ويقول تعالى:
\”ان رحمة الله قريب من المحسنين\” الأعراف/56.
والخلاصة ان التغلب على الاستجابة الغريزية، والتي يغلب عليها طابع اللاسواء، بحاجة الى التعرض الى مناخات الرحمة، وان مزيدا من التعمق في التدبر في آيات الكتاب الحكيم كفيلة باستكشاف هذه المناخات، بل و استنباط آليات المعالجات النفسية للانحراف، في مواجهة الإثارات اليومية التي تجابه الإنسان في حياته.