ورقة مقدمة لمؤتمر الاخلاق بين النظرية والتطبيق للمجلس الأعلى للشئون الاسلامية في مملكة البحرين، في الرابع والخامس من نوفمبر 2008م
المحتويات
المدخل
الاخلاق في الفكر الانساني
الفكر الاخلاقي لدي المسلمين في القرون الماضية
مع الاخلاق في القرآن والسنة
التطبيقات العملية
منهج التطوير الاخلاقي
الخاتمة
المدخل
تكتسب المسألة الاخلاقية اهمية خاصة في اللحظة الحاضرة من تاريخ البشرية، فقد استطاع الانسان المعاصر ان يذهب كثيرا في المجالات العلمية،ويحقق انجازات لم تستطع البشرية تحقيقها في القرون الماضية،ومن المتوقع ان تحدث انفجارات علمية في شتى جوانب الحياة،في العقود القادمة.
غير ان ذلك لم يتزامن معه تطور اخلاقي بحجم التفتق العلمي،وهو ما يهدد البشرية بتحول المنتجات العلمية الى وسيلة لاستعباد الانسان لاخيه الانسان،وهو ما حدث بالفعل في نظرية تفوق الرجل الابيض وسيادة الحضارة الغربية،حين تحول العلم الى وسيلة قهر للامم الاخرى،واعطى الشرعية للاستعمار،بمختلف المبررات.
واذا كانت الطبيعة الاولى لاصحاب القوة والنفوذ تدفعهم نحو مزيد من الهيمنة والسيطرة واخضاع الارادات،فان رسالة اصحاب العلم والدين تحتم عليهم تقديم الحلول العلمية والدينية للتبعات التي تفرزها التطورات المختلفة في مسيرة البشرية.
من هنا تأتي مدارسة المسألة الاخلاقية في مؤتمر يضم ثلة من علماء الاسلام،للمساهمة في تقديم الحلول الناجعة لما يواجهنا اليوم من افرازات سلبية نتجت عن التدافعات المتعددة في عالمنا المعاصر،ولا سيما في منطقتنا العربية والاسلامية.
ولعل هذا اللقاء العلمي يكتسب اهمية خاصة من حيث الزمان والمكان والجهة المنظمة،فالزمان هو مشروع تحديث كبير تعيشه مملكة البحرين،في ظل التطلعات الطموحة لقائد هذه المملكة الملك حمد بن عيسى آل خليفة،الذي قدم مشروعا تحديثيا كبيرا يرتقي بهذه المملكة الصغيرة في جغرافيتها الى واحة حضارية مميزة،تساهم في تقديم صورة انسانية فريدة،جديرة بالتوقف امامها من قبل العلماء والمفكرين.
والمكان ارض هذه المملكة التي كانت منذ القدم ارض حضارات،ومنبت العلماء،ومناخ التسامح والتآخي،ومرتع الاخلاق الطيبة،ومحطة راحة العلماء والمفكرين،وملتقى التعددية الانسانية.
اما الجهة المنظمة وهي المجلس الأعلى للشئون الاسلامية،فهو جهة تضم علماء من الطائفتين الكريمتين في هذه المملكة المباركة،يتوقع منها ان تكون سباقة في طرح الحلول الناجعة لما تمر به البشرية والمجتمعات الاسلامية والعربية على وجه خاص،من مشاكل ومعضلات علمية وعملية،اذ ان الدور الحقيقي للعلماء هو اظهار العلم،ونشر المعرفة،وتربية الاجيال على الخلق القويم.
ان المسألة الاخلاقية ليست بالمسألة الجديدة في تاريخ الفكر الانساني،فمع اللحظات الأولى التي صافح فيها الفكر عقل الانسان،انشغل بطريقة منظمة وغير منظمة بالتفكير في الجانب الاخلاقي لهذا الكائن المتفرد في طباعه ومكوناته،فهو في حالة ما قد يكون ارق من النسمة في الصباح الجميل،وفي حالة قد يكون اقسى من الصخور الصلدة،وقد يتفتق ذهنه وجهده عن ابداع يطور البشرية ويقفز بها مئات السنين،وقد يهدم في لحظة جهود الملايين من البشر،وكأنه لايقدم على اجرام خطير.
لكن التفكير الانساني حين اصبح منظما مع الفلاسفة اليونان(مع بعض التحفظ على هذا الاطلاق لصالح الحكمة الشرقية)،اعطيت المسألة الأخلاقية اهمية خاصة ضمن تناول المسائل الفلسفية الكبرى،وهي مسألة الأولوهية والكونية والنفسية،وقد تناول الفلاسفة المسألة الأخلاقية في متون المسألة النفسية،بل يمكن القول ان النتيجة التي يحسم بها الفيلسوف اعمال فكره في المسألة النفسية تتلخص في نظريته الاخلاقية،وسنلقي بعض الضوء في هذا البحث على نماذج فلسفية تناولت المسألة الاخلاقية،فليس من الممكن تجاهل الجهد الانساني الفلسفي في موضوعة الاخلاق،حين دراستها بشكل علمي منظم.
لكن الدين كان دائما وابدا منقذ الانسان في المسائل الفكرية الكبرى،وفي تنظيم حياته وتطويرها،فلا يمكن له ان يغفل المسألة الاخلاقية،بل نجد ان الدين،واعني الاسلام بشكل خاص قد اعطى الاخلاق اهمية قصوى،بل اعتبرها هي الدين بعينه،وصرح بشكل جلي ان من لااخلاق له لادين له،ومدح الله سبحانه وتعالى خاتم انبيائه وخير رسله بالخلق العظيم،واعتبر النبي محمد (ص) ان غاية ابعاثه هو اتمام مكارم الأخلاق،وقدم عمليا للمسلمين صورا رائعة من الممارسة الاخلاقية استسلم لتأثيرها خصومه قبل محبيه.
ورغم ان الاسلام يدعو المسلمين لاتخاذ النبي محمد (ص) اسوة حسنة،الا ان واقع المسلمين،يكشف عن ابتعادهم عن التأسي به (ص) وهو ما انعكس على حياتهم،في الفترة الراهنة،حيث ان الامم الاخرى تقدمت عليهم،على عكس ما كان في فترة النبي (ص) وما تلاها من عقود قصيرة حيث اصبح المسلمون الأمة الحضارية الأولى.
الامر الذي يتطلب من المسلمين اليوم التفكير الجدي في العودة الى التأسي بالنبي (ص) في اخلاقه،وهو ما يتطلب منهم وهذه مسئولية علماء الامة خاصة،تحويل المسألة الاخلاقية من نظريات الى تدريبات عملية،وممارسات تربوية تنشئ عليها الاجيال جيلا بعد جيل.
وهذا ما سينعكس بصورة تلقائية على المشاريع التنموية في بلداننا العربية والاسلامية،اذ ان هنالك علاقة وطيدة بين التنمية الاخلاقية والتنمية الشاملة والمستدامة في اي مجتمع من المجتمعات الانسانية.
وفي تقديري الخاص ان مثل هذا المؤتمر يمكن له ان يساهم بدور كبير في دعم المشروع التحديثي لمملكة البحرين،من خلال القاء الضوء على التطبيقات العملية للمسالة الأخلاقية في واقع الناس.
الاخلاق في الفكر الانساني
اهتم الانسان بموضوع الاخلاق منذ القدم،والمتابع للفكر الانساني يجد هذا الاهتمام مع الحكمة الشرقية ثم الفلسفة اليوناينة والفلاسفة والعلماء والمفكرين المسلمين،الى فلاسفة القرون الوسطى وعصر الانوار والعصر الحديث والعصور المـتأخرة،ويمكن لنا في هذا البحث ان نلقي الضوء على بعض النماذج من هذا الاهتمام،وهو بحث غير ملتزم بالتدرج التاريخي وان كان في سياقه.
ارسطو
اعتبر الفيلسوف اليوناني ارسطو(1) الاخلاق فرعا من السياسة،ورأى ان الخير هو الغاية من الاخلاق،وهو موضوع دراسة اكثر الفنون احاطة وشمولا،وهو الفن المسيطر على سائر الفنون،اذ السياسة عنده هي التي تعين لنا ما ينبغي ان نفعله وما لا ينبغي ان نفعله،لذلك فان غاية علم السياسة يجب ان تشتمل على غايات العلوم الاخرى،بحيث تكون هذه الغاية هي خير الانسان.
فالاخلاق اذن علم عملي وهي جزء من السياسة،ولا يقدح هذا في قيمة الاخلاق اذ ان الدولة اقدر على تحقيق الخير والاخلاق الفاضلة للافراد ما دامت الغاية واحدة عند الدولة وعند الافراد.(2)
وقد رأى ان المنهج في دراسة الاخلاق لا يقوم على الاستدلال البرهاني بقدر ما يستند الى التجربة الواقعية،ولم يتفق مع استاذه افلاطون حينما ارجع الاخلاق الى العقل وربط السلوك الاخلاقي بمثل اعلى هو الخير بالذات،ذلك لاننا لا نجد هذا المثل الاعلى في التجربة اذ انه يتجاوز السلوك الواقعي للافراد.
وخرج بنتيجة بان الشباب لا يصلحون لدراسة العلم السياسي او الاخلاق لانهم لم تتجمع لديهم تجارب عديدة عما يحدث في الحياة من افعال،وهذه الافعال هي التي تبدأ منها مناقشات هذا العلم وتدور حولها.
يؤكد ارسطو ان السعادة التي يتطلع اليه جميع الناس،هي الخير الاعظم،والناس جميعا يقرنون السعادة بالحياة الطيبة وبالعمل الطيب،لكن الناس يختلفون في فهمهم للسعادة،وتختلف اراء غالبيتهم في تفسيرها عن تفسير( الحكيم) لها.
وهو يرى ان هناك ثلاث مراتب للسلوك الاخلاقي:
1/حياة اللذة:حيث ان غالبية الناس يفضلون حياة اللذة،وهم يطابقون بين حياة اللذة والخير الاقصى،اي السعادة،وهذا هو سبب انغماسهم في حياة اللهو والمرح واللذة.ولكن اللذة حسب ارسطو لا يمكن لها ان تكون الخير الاقصى.
2/حياة التشريف السياسي:وهي مطلب علية القوم،وهذا التشريف يرجع للذين يمنحونه اكثر من الذين يتقبلونه،والخير يجب ان يكون ذاتيا بالنسبة للشخص.
3/حياة الحكمة والتأمل:وهذه الحياة هي التي تمثل السعادة الحقيقية،فيقول بان السعادة الحقيقة انما تكون في ممارسة الحكمة والتأمل. وهو يؤكد في اكثر من موضع بان الرجل الفاضل حقا اي الممارس لحياة الحكمة،هو الذي يظل سعيدا رغم ما ينزل به من كوارث ومحن.
الابيقورية
اما لدى ابيقور(3)فان وظيفة علم الاخلاق هي القضاء على المخاوف الخيالية التي تعترض طريق تحقيق السعادة،وعنده السعادة هي اللذة وهي خيرنا الاعظم،وهي ليست اللذة القصيرة القوية،بل اللذة الدائمة طوال العمر،وفي مذهبه الاخلاقي يتجه الى تفضيل لذات العقل على لذات الحس،فغاية الاخلاق عنده الوصول الى راحة العقل وطمأنينته اي الاستمتاع بالسكينة بمعزل عن مشاكل الحياة واعبائها.
ان هنالك ثمت عناصر هامة تساعد في الوصول الى اللذة العظمى اي السعادة،منها ضبط النفس اذ هو يتيح لها التقدير الحق لحدود اللذة والالم،وكذلك الشجاعة باحتقارها للموت والالم،والعدالة التي تعلمنا انه لايوجد اي خوف من عقاب اخروي،يكون عائقا امام طمئنينة العقل وراحته،وكذلك الصداقة تعد عنصرا هاما عند ابيقور في تحقيق اللذة العظمى (السعادة) فاليها يرجع الشعور بالعون المتبادل اي المشاركة في الامن للفرد.(4)
الرواقية(5)
تقوم الاخلاق الرواقية على مبدأ اساس هو العيش وفق الطبيعة،اي حسب ما تقتضيه الطبيعة،حيث ان الاشياء جميعا تنظمها قوانين كلية ضرورية شاملة،والانسان قادر على اكتشاف هذه القوانين والسير وفقها،وان ما يوافق بقاءنا هو النافع لنا وهو الذي يؤدي الى سعادتنا،وكل موجود يستمد قيمته من عمله على حفظ بقائه وسعادته.
ويتميز الرواقيون عن سقراط في انهم يفهمون المعرفة الاخلاقية التي هي اساس الفضيلة على انها تشمل العقل والارادة معا،فالعلم هنا ليس نظريا فحسب بل هو علم يتعلق بارادة متجهة الى الخير ومتحررة من النزوات،ويؤكون ان الفضيلة تقوم على العقل والارادة معا بالتساوي،ويرجعون الفضائل الى التأمل فهو مصدر كل فضيلة.
وقد ميزوا بين ثلاثة انواع في نظرتهم الى الخير:
1/ما تتفق مع الطبيعة،وهي لها قيمة ويجب ان تطلب لذاتها وان تفضل على غيرها.
2/ما تتعارض مع الطبيعة،وهي ليست ذات قيمة ويجب تركها.
3/اشياء ليست خيرا او شرا بالذات،وهي وسط بين النوعين السابقين.(6)
افلوطين(7)
تقوم الاخلاق عند افلوطين على اساس التصوف،والسعادة اخروية،وهي حنين للعودة الى الواحد او الصعود الى السماء،والموجودات حسب افلوطين تنقسم الى قسمين،اخلاقية وغير اخلاقية،ومنها ما هو فوق مستوى الاخلاق ومنها وما هو دونها،وهي المادة التي تعتبر في نظر افلوطين مصدرا للشر او هي الشر بعينه،وقد يسميها الشر بعينه ولا مجال لتحويلها الى الخير.
يعتبر افلوطين الفضيلة حالة من حالات النفس،والنفس التي لا تتحرر من الشهوات والملذات والانفعالات لا توصف بانها الهية وانما هي نفس شيطانية،اي نفس قد تلبسها الشيطان،وتحتاج الى تطهير كوسيلة لتحرير الروح او النفس من العواطف ورغبات الجسد على قدر الامكان.
لقد جعل افلوطين السعادة العظمى والخير الاسمى في الاتصال أو الاتحاد بالله،وان الاخلاق هي سير دائم نحو الكمال وارتفاع مستمر الى الله،ولهذا يرى ان التأمل هو الفضيلة التي لها القيمة الحقة،وان الفاضل هو الذي يقهر اللذات ويطهر النفس من الشهوات والرغبات الدنيئة للجسد.ان امهات الفضائل المعروفة كالحكمة والشجاعة والعفة والاعتدال ليس لها من قيمة الا تطهير الروح بابعادها عن الشر.(8)
الفكر الاخلاقي في قرون المسلمين الماضية
الدارسون لانتاج الفكر الاخلاقي لدى المسلمين في القرون الماضية،يوزعون المفكرين الى عدة اقسام،منها:
1/الفقهاء،وهم الذين اكتفوا بالقواعد الخلقية التي جاء بها الاسلام وعملوا على التونيه بها والحث عليها وشرحها في كتبهم وخطبهم ومواعظهم واحاديثهم.
2/المتكلمون وهم الذين لم يكتفوا بالقواعد الخلقية العملية التي انطوى عليها الكتاب والسنة،بل تعدوها الى البحث عن اصل الاخلاق ومفهوم الفضيلة والخير والشر وما شابه ذلك من تشعبات اخلاقية.
ومن النماذج في صنف المتكلمين الذين اولوا المسالة الاخلاقية اهتماما كبيرا،الجاحظ (255ه) الذي له اراء بارزة في ذلك بثها في تضاعيف كتبه،سيما في كتاب البخلاء ورسالة المعاش والمعاد.
يرى الجاحظ ان اصل الاخلاق طبائع الانسان،فهو يولد حاملا معه طبائع الغضب والرضا والبخل واسخاء والجزع والصبر والرياء والاخلاص والكبر والتواضع والسخط والقناعة وسواها،والى جانب ذلك زود بالعقل الذي يكبح جماح الشهوات ويلجم الطبائع ويعدلها ويقوم اعوجاجها،ولكنه لا يفلح في ذلك الا بعد البحث والتجارب والنظر الطويل في عواقب الامور.
ويعنى الجاحظ بتحديد الفضائل الاخلاقية التي تعتبر اهم موضوعات علم الاخلاق،ويعتبرها وسطا بين رذيلتين في جميع الامور،واهم الفضائل الخلقية التقوى،والتنبه للامور والعواقب،وعدم التواكل،وتثمير المال،والشجاعة،والصداقة،والحلم،والصدق والتواضع.
3/الفلاسفة،ولم يلاحظ عليهم الاهتمام الكبير بالمسئلة الاخلاقية مقارنة بالمسائل الفلسفية الاخرى،ولعل اكثرهم اهتماما لموضوع الاخلاق الفارابي (9) الذي اعتبر علم الاخلاق وعلم السياسة فرعين للعلم المدني،والعلم المدني يفحص عن الغرض الذي من اجله كون الانسان وهو الكمال،كما يفحص عن الاشياء التي يبلغ بها ذلك الكمال وهي الخيرات والفضائل،وما يميزها عن الاشياء التي تعوق الانسان عن بلوغ الكمال وهي الشرور والنواقص والسيئات.(10)
تستمد نظرية الفارابي في الاخلاق اصولها من النظرية اليونانية الاخلاقية بصفة عامة،تلك التي ترى في السعادة الخير الأقصى للحياة الانسانية بكافة انشطتها،كما انها تنبع بصفة خاصة من موقف ارسطو الاخلاقي،فالاخلاق عند كل من الفارابي وارسطو علم عملي،يقوم على ممارسة الافعال المحمودة واتباع القوة الصالحة لاكتساب ملكة الافعال الخلقية،فكل انسان حاصل على القدرة على فعل الخير ولكنه ينميها بالفعل والممارسة.(11)
4/المتصوفة،وهم الذين رأوا السعادة في انكشاف الامور الالهية عن طريق الزهد في الدنيا والاقبال على الله،ولعل ابو حامد الغزالي(12) يمثل انموذجا واضحا للمتصوفة،وان عالج بعض القضايا بما في ذلك المسألة الاخلاقية بتأملات فلسفية.
لقد سعى ابو حامد لوضع اسس للاخلاق في كتابه \”ميزان العمل\”وهو يتعلق بموضوعات السعادة والخير وأصل الاخلاق والفضيلة،فهو ينظر الى السعادة انها غاية الانسان وخيره المنشود،غير ان الناس يختلفون في ماهيتها وكيفية بلوغها،وهم في ذلك اربعة اصناف:
1/فرقة المؤمنين بالشرائع السماوية،من مسلمين ويهود ومسيحين،وهؤلاء\”يثبتون اللذات الحسية التي ترجع الى المنكوح والمطعوم والمشموم والملموس والمنظور اليه\”ويعتنون بأنواع من السرور واللذات الآخروية التي\”لا يحيط بها الواصفون مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر\”.
2/فرقة الفلاسفة الذين يهتمون باللذة العقلية الناشئة عن المعرفة والعلم،وينكرون اللذات الحسية.
3/فرقة الدهرية الذين جحدوا الخالق والحياة الاخروية،واعتقدوا أن السعادة تقوم على تحصيل اللذات الحسية أو المعنوية كالعزة والكرامة والمكانة الرفيعة والسلامة والسرور والجاه.
4/فرقة المتصوفة الذين صدفوا عن اللذات الحسية وزهدوا في خيرات الدنيا،ورأوا السعادة في انكشاف الامور الالهية،وهذا الانكشاف ينتج عن طريق الزهد في الدنيا والاقبال على الله تعالى،ولا ينال بالتعلم والدراسة وتحصيل ما صنفه المصنفون في بحثهم عن الحقائق،فاذا حصل هذا فاضت الرحمة الالهية وانكشف سر الملكوت وظهرت الحقائق.
ويحدد الغزالي الفضيلة كما حددها ارسطو والجاحظ من قبل بانها الوسط المعتدل بين طرفي الافراط والتفريط،لكنه يتابع افلاطون في تقسيم الفضائل فيرجعها الى قوى النفس الثلاث:العقلية والغضبية والشهوانية،ويجعلها اربع رئيسية وهي :الحكمة فضيلة القوة العقلية،والشجاعة فضيلة القوة الغضبية،والعفة فضيلة القوة الشهوانية،اما العدالة في انتظام هذه القوى وترتيبها.(13)
مع الاخلاق في القرآن والسنة
جاء في التفسير \”ان الله سبحانه وتعالى وصف نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال { وإنك } يا محمد { لعلى خلق عظيم } أي على دين عظيم وهو دين الإِسلام عن ابن عباس ومجاهد والحسن. وقيل: معناه إنك متخلق بأخلاق الإِسلام وعلى طبع كريم وحقيقة الخلق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب وإنما سمّي خلقاً لأنه يصير كالخلقة فيه فأما ما طبع عليه من الآداب فإنه الخيم فالخلق هو الطبع المكتسب والخيم هو الطبع الغريزي.وقيل: الخلق العظيم الصبر على الحق وسعة البذل وتدبير الأمور على مقتضى العقل بالصلاح والرفق والمداراة وتحمل المكاره في الدعاء إلى الله سبحانه والتجاوز والعفو وبذل الجهد في نصرة المؤمنين وترك الحسد والحرص ونحو ذلك عن الجبائي.
وقالت عائشة: كان خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما تضمنه العشر الأول من سورة المؤمنين.وقيل: سمي خلقه عظيماً لأنه عاشر الخلق بخُلقه وزايلهم بقلبه فكان ظاهره مع الخَلق وباطنه مع الحق. وقيل: لأنه امتثل تأديب الله سبحانه إياه بقوله
{ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }
[الأعراف: 199]. وقيل: سمي خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ويعضده ما روي عنه (ص) قال: \” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق \” وقال: \” أدَّبني ربي فأحسن تأديبي \” وقال صلى الله عليه وآله وسلم: \” إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار\”
وعن أبي الدرداء قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: \” ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن \” وعن الرضا علي بن موسى (ع) عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: \” عليكم بحسن الخلق فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة وإياكم وسوء الخلق فإن سوء الخلق في النار لا محالة \” وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: \” أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون وأبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة المفرّقون بين الإخوان الملتمسون للبراء العثرات \”.(14)
وذهب العلامة الطباطبائي الى أن:\” الخلق هو الملكة النفسانية التي تصدر عنها الأفعال بسهولة وينقسم إلى الفضيلة وهي الممدوحة كالعفة والشجاعة، والرذيلة وهي المذمومة كالشره والجبن لكنه إذا أُطلق فهم منه الخلق الحسن.
والآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والإغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك.(15)
قال الراغب: والخلق – بفتح الخاء – والخلق – بضم الخاء – في الأصل واحد كالشرب والشُرب والصرم والصُرم لكن خصَّ الخلق – بالفتح – بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق – بالضم – بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة قال تعالى: { وإنك لعلى خلق عظيم }.(16)
وقيل:خلق من مادة الخلقة بمعنى الصفات التي لاتنفك عن الانسان،وهي ملازمة له،كخلقة الانسان وخلقه.(17)
التطبيقات العملية
ان القيمة الفعلية للنظرية الاخلاقية بمختلف مصادرها،تكمن في تحولها الى سلوك عملي ان على مستوى الفرد او المجتمع،وما لم تكن النظرية قابلة للتطبيق او لم تقدم آلية عملية يمكن من خلالها تحولها الى ممارسة فعلية فان هذه النظرية تبقى بين اسطر الكتب وتفقد مع مرور الزمن قيمتها العلمية،ذلك لان الاخلاق سلوك انساني،والسلوك لا يمكن حبسه في المطويات او حتى العقول،بل لقد وجدنا ان الفلسفات التي استطاعت ان تعيش فترات طويلة،هي الفلسفات التي توفرت على من حولها الى ثقافة جماهيرية يتمثلها الناس في يومياتهم.
ولذلك وجدنا ان الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة قد اقترحوا برامج عملية لتحول نظرياتهم الاخلاقية الى واقع ممارس،فقد اقترح افلاطون تربية خاصة للمميزين في اكاديميته ليختار منهم الطبقة الحاكمة بعد ذلك،ووجدنا لدى الفارابي وهو فيلسوف مسلم تمثل الفلسفة اليونانية،سيما عن افلاطون وارسطو،وجدناه يؤكد (18)ان الفلسفة الاخلاقية هي التي تضع قواعد السلوك المؤدي الى تحصيل السعادة،وهي تشتقها من الممارسة العملية والتجربة الحيوية،وهو يهتم بدراستها وبيان الطرق المؤدية الى تحصيلها،ويميز بين ما يحتاج الى تعليم وما يحتاج الى تأدب،وممارسة فن الفضائل،وافضائل الخلقية من بين ما يحتاج الى التأدب منها،والفارابي هنا يحاول ان يعمم نظرية ارسطو في الفضائل الاخلاقية على سائر اجناس الفضائل ،فهو يرى ان الصناعة سواء كانت نظرية او عملية فهي بحاجة الى تعلم وتأمل واستدامة نظر،وممارسة حتى ترسخ ملكتها في الذهن،اي ان الفضائل كلها تتطلب التعليم والممارسة والتأدب على تفاوت تباينها.
لكن هنا يبرز سؤال،من الذي يتولى مهمة التعليم والتأديب؟
يجيب الفارابي،ان الرئيس او من ينوب عنه هو الذي يقوم بالمهمتين معا،اي بالتعليم والتأديب،وهو يشير بهذا الى رئيس المدينة الفاضلة.
كذلك نجد لدى ابو حامد الغزالي تصور عملي لكيفية تحويل نظريته الاخلاقية الى ممارسة عملية،فهو يقول:ان الفضيلة تارة تحصل بالطبع وطورا بالاعتياد ومرة بالتعليم،فمن تضافرت في حقه الجهات الثلاث حتى صار ذا فضيلة طبعا واعتيادا وتعلما،فهو في غاية الفضيلة،ومن كان رذلا في هذه الجهات الثلاث فهو في غاية الرذيلة،وبينهما رتبة من اختلفت فيه هذه الجهات.
ويرى ان وسائل التأديب هي الترغيب والترهيب بالنسبة للعوام،ورجاء المحمدة وخوف المذمة بالنسبة للحكام واكبار الدنيا،والعقل والاقناع بالنسبة للعقلاء والحكماء والاولياء.وينبغي مراعاة السن في اللجوء الى هذه الوسائل،ففي ابتداء الصبى لا يمكن زجر الانسان وحثه بالحمد والذم،بل بالضرب والطعام.واذا اصبح مميزا ومقارنا للبلوغ امكن زجره وحثه بالمحمدة والمذمة،واذا بلغ وغدا راشدا نتوجه الى عقله بالادلة والبراهين على الحق والباطل والصالح والطالح.(19)
وحديثا نجد لدى السيد كمال الحيدري(20) تلخيصا لما ذكره الاعلام من مسالك لتهذيب الاخلاق الانسانية واصلاحها،حددها في ثلاثة مسالك:
المسلك الأول:تهذيب الأخلاق بالغايات الصالحة الدنيوية.
ويقوم هذا المسلك على حث الانسان ودفعه وايجاد الداعي فيه الى القيام بالاعمال الحسنة والى اصلاح نفسه من خلال الدزاء والمصالح الدنيوية من جاه أول مال أول ثناء او ذكر حسن،وعلى تحذير من القيام بالاعمال السيئة وذمها من خلال بيان المساوئ والمضار الدنيوية المترتبة عليها.وقد نقل هذه العبارة عن صاحب الميزان في تقويم هذا المسلك\”وهذا المسلك هو المأثور من بحث الاقدمين من يونان وغيرهم فيه (اي علم الأخلاق) ولم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بناؤه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس عن المذموم والأخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه…\”(21)
المسلك الثاني:تهذيب الاخلاق من خلال الغايات الأخروية
ويقوم هذا المسلك على دعوة الانسان وحثه على الاتصاف بالخصال الحسنة والحميدة وعلى اجتناب العادات الرديئة والسيئة،وذلك من خلال الجزاء الأخروي ثوابا وعقابا،وحسب صاحب الميزان\”ان هذا المسلك في اصلاح الاخلاق هو طريقة الانبياء ومنه شيئ كثير في القرآن وفيما ينقل الينا من الكتب السماوية\”.وهذا المسلك هو الغالب على الناس في تهذيب اخلاقهم واصلاحها.
المسلك الثالث:الحب الألهي
ويتقوم هذا المسلك بركنين،الاول:المعرفة والعلم،وذلك بان يعطى الانسان علوما ومعارف توصله الى التوحيد الخالص.والثاني:العمل،بعد ان يتعلم الانسان التوحيد وتحصل عنده تلك الملكة العلميةنعليه ان يتحقق بالتوحيد العملي،والطري الى ذلك هو الحب،فلا يحب غير الله تعالى،فان الانسان اذا احب شيئا اطاعه وعبده فان من آثار الحب الطاعة والتسليم وهي العبادة،فمن احب الله عبده ومن احب الدنيا الزائلة عبدها.
وفي تقديري ان هذه المسالك الثلاثة ليست برامج عملية لتقويم الاخلاق،نعم هي دوافع لذلك،ولابد من التفصيل بين الدوافع والبرامج،فهذه الدوافع ستحرك الانسان نحو الاخلاق الفاضلة وستطور منها،لكنها عندما لاتتحول الى برامج تفصيلية في جريان هذه الدوافع،تخبو مع مرور الايام،ويعود الانسان الى نقطة الصفر من جديد.
اضافة الى ذلك فان القول بالحب الالهي المنفصل عن اعمار الحياة الدنيا بما يرضي الله سبحانه وتعالى وفي غير ما يسخطه،من اجل رفاهية الناس وتيسير حياتهم،والفوز بالجنة في الاخرة بمقدمات العمل في الدنيا،يحتاج الى تأمل كبير،حيث ان هذه النظرية يمكن لها ان تنمي شعورا غير منسجم مع الحياة الطيبة التي دعى الدين اليها،وسيميل بالمتبنين لها ميلا سلبيا عن التفاعل مع مناشط الحياة المختلفة،وهذه نقطة جديرة بالاهتمام والمعالجة.ويؤخذ كذلك على هذه النظرية انها فردية النزعة،بينما المعالجات الاسلامية عادة ما تتميز بالمجتمعية الغير منكرة للحق الفردي.
وايضا نجد لدى علماء الامامية المعاصرين،طرحا عمليا اخر لاصلاح النفوس بالاخلاق،من خلال السلوك الى الله سبحانه وتعالى،عند المرجع الديني السيد كاظم الحسيني الحائري،في كتابه\”تزكية النفس\”(22) حيث يقول:\”ان السلوك الى الله سبحانه وتعالى بعد تكميل اصول الاعتقاد بحاجة الى اركان ثلاثة:الى كتاب يكون دستورا لعمله،والى عبادة بينه وبين ربه يختلي فيها مع الله سبحانه،والى سلوك مع الطبيعة ومع الناس،او قل :ارتباط مع المخلوقات،فالكتاب الأول هو القرآن الكريم،والعبادة الأولى هي :الصلاة، والارتباط الأول بالطبيعة والناس،هو كشف اسرار الطبيعة،واستثمارها في سبيل مصالح الناس وارتباط الرعاية والهداية،وقضاء الحوائج للناس،وبكلمة مختصرة،العمل معهم بما تقتضيه خلافة الله عز وجل على وجه الارض.
ومما يشهد للاول:قوله تعالى:\”افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها\”محمد/24
ومما يشهد للثاني،قوله تعالى:\”ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر…\”العنكبوت/45
ومما يشهد للثالث،قوله تعالى:\”اني جاعل في الارض خليفة …\”البقرة/30
وواضح من هذا الطرح اقترابه من البرامج العملية،والمتابع للكتاب المذكور يجد السيد بعد ذلك يدخل في تفاصيل الفضائل الاخلاقية،غير انه لم يركز على الدوافع المحركة للتنمية الاخلاقية،وهو ما سالقي الضوء عليه في الفقرات القادمة،ان شاء الله.
منهج التطوير الاخلاقي
يقوم منهج التطوير الاخلاقي على مجموعة من النقاط،ضمن تراتيبية مستلهمة من القرآن الكريم،وهي تشكل تلاقيا قيميا اخلاقيا تنمويا شاملا ومستداما،يستهدف المجتمع والفرد معا،لكنه يعطي الاولوية للمجتمع،ولا يقلل من دور الافراد.
1/الرؤية التي يقوم عليها هذا البرنامج،وهي تشكل اهدافا ودوافع مجتمعية وفردية في ذات اللحظة،تتمثل هذه الاهداف والدوافع في النجاح الشامل والمستدام في الحياة الدنيا،والفوز بالجنة في الاخرة،ومن دون شك ان الرغبة في النجاح الفردي والمجتمعي هو تطلع يشعر المجموع بالسعادة،التي يعتبرها الفلاسفة والحكماء والمفكرون الخير النهائي الذي يسعى اليه الانسان.
ومن الحسن الالتفات الى ان القرآن الكريم لم يتحدث عن السعادة ولا توجد آية في القرآن الكريم تشير الى السعادة في الدنيا،بل تشير اليها في الأخرة،كما في قوله تعالى:\” وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ\”هود/108
انما يؤكد القرآن الكريم على لفظة اخرى،يمكن ان تشعر الانسان بما يعتبره الفلاسفة والحكماء والمتصوفة والمفكرون سعادة،انها لفظة الفلاح،والتي تعني النجاح في الدنيا والفوز في الاخرة،والفلاح تطلع واقعي قابل للتحقق،بالنسبة للفرد والمجتمع والحضارة،وفي ضوئه يمكن ان تصاغ الاهداف والبرامج والخطط بشكل جلي وواضح من دون غموض الفلاسفة ولا انعزالية المتصوفين.
قال المفسرون في معنى الفلاح،
يقول الراغب الاصفهاني في مفردات الفاظ القرآن:\”الفلاح الظفر وادراك بغية، وذلك ضربان: دنيوي واخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز، وفلاح اخروي وذلك اربعة اشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل\” وبهذا المعنى يكون الفلاح في الدنيا هو النجاح الذي ننشده، والفلاح في الآخرة هو الفوز الذي نطمح إليه.
يقول الطبري في قوله تعالى:\”اولئك على هدى من ربهم واولئك هم المفلحون\”البقرة/5، قال:اولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره باعمالهم وايمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنان.. ثم نقل عن ابن عباس رضي الله عنه: اي الذين ادركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا.
وفي تفسير ابن كثير\”اولئك هم المفلحون\”: اي المنجحون.
ويقول الطبري في تفسير الآية من سورة آل عمران :\”واتقوا الله لعلكم تفلحون\” قال:لتنجحوا فتنجوا من عقابه وتدركوا ما رغبتم فيه من ثوابه، والخلود في جنانه.
2/في الذكر الحكيم،علاقة تراتيبية واضحة لايات الفلاح،وهي تضع بين ايدينا البرامج الممكنة لكل مرحلة في هذه العلاقة التراتيبية،فهي تشير اولا الى الذين لايمكن لهم النجاح في الدنيا والاخرة،فعلينا نتجنب ان نكون منهم،ثم تشير الى المهارات التي يمكن التحصل عليها لسلك دروب النجاح،وهي مهارات نفسية واجتماعية،وبعد ذلك تضعنا في المرحلة التي يمكن لنا من خلالها مواصلة التفوق والفوز،ثم تصل بنا في مرحلة رابعة الى قمة النجاح في الدنيا والفوز في ألاخرة.(23)
3/مع اننا سنجد برامج واضحة للارتقاء بالاخلاق،كممارسات عملية من خلال تتبع آيات الفلاح الاربعين في القرآن الكريم،الا اننا نجد التقاء كبيرا بين الفلاح والتقوى،وهذا يشير الى ان الفلاح يشكل الرؤية او الدوافع للتطور الايماني والاخلاقي،بينما تشكل التقوى البرامج العملية،لهذا التطور،وهذا يلتقي مع مقولة الامام علي عليه السلام:التقوى رئيس الاخلاق.وكذلك يلتقي مع ما قاله بعض الفلاسفة والحكماء ان التقوي مكون رئيس للفضيلة،وقد قال علي عليه السلام:\”المتقون اهل الفضائل\”
وهنا مجموعة الآيات التي تؤكد العلاقة الوطيدة بين التقوى والفلاح، وكلها تريد القول لنا أن جوهر النجاح الفردي والاجتماعي والحضاري يتمثل في التزام تقوى الله عز وجل:
1/قوله تعالى:\”يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون\”189/البقرة.
2/قوله تعالى:\”يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون\”130/آل عمران.
3/قوله تعالى:\”يأيها الذين أمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون\”200/آل عمران.
4/قوله تعالى:\”يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون\”35/المائدة.
5/قوله تعالى:\”قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون\”100/المائدة.
يضاف الى ذلك افتتاحية سورة البقرة،التي تؤكد على ان المتقين هم الناجحون في الدنيا والفائزون في الآخرة.
4/في البعد الأخلاقي للتقوى نجد آيات مباركات تشير الى ما يتفرع عن التقوى من سلوكيات اخلاقية،وبذلك يمكن لنا رسم الشجرة الاخلاقية التي يركز عليها القرآن الكريم والتي تستوي على قاعدة التقوى،منها قوله تعالى:\” لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ\”البقرة/77
وقوله تعالى:\” وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ *وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ\”(ال عمران/133-136)
5/لان التقوى حالة نفسية واجتماعية تسري في كافة أبعاد الحياة، لذلك تجد أن البرامج الربانية المولدة لها والمنضبطة بها موضحة في القرآن الكريم في كل الأبعاد، الأمر الذي يعني أننا معنيون باستكشاف هذه البرامج وتحويلها إلى يوميات معاشة، والمدقق لمتبعة برامج التقوى يجدها تسري في البعد الاجتماعي والسياسي والثقافي وكل الأبعاد الحياتية للإنسان.
وهذا ما يمكن لنا أن نرى انعكاسه على التنمية الشاملة والمستدامة للمجتمعات الإنسانية، وهنا يمكن لنا أن نرى دور الأخلاق التي يريدها الدين الحنيف ومساهمته في تنمية المجتمعات البشرية.
6/ولان التنمية لا يمكن لها أن تتم إلا بتغلب الإنسان على مشاكله وأزماته النفسية، نجد القرآن الكريم، ومن خلال إحدى برامج التقوى، وهي الصلاة يعالج المشكلة النفسية عند الإنسان، وبذلك يمكن القول أن الإسلام يهتم بتطوير أخلاق الإنسان السوي، ويعالج أخلاق المصاب لينقذه من براثن الرذيلة،بعد أن يقرر أن الطبيعة الأولى للنفس البشرية القلق وشدة الحرص،وهذا ما يجعل التوقع بالإصابة ممكنا.
هذا ما يمكن لنا أن نتفهمه من خلال الآيات المباركة، في سورة المعارج، قوله تعالى:
\”إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا *إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا *وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا *إِلاَّ الْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ *وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ *لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ *وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ *وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ *إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ *وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ\”المعارج/19-35
الخاتمة
وبعد فان قيمة الأبحاث الأخلاقية فيما تساهم به من تطوير للمجتمعات البشرية، وهذه الورقة تنتهي إلى أن الإسلام قدم البرامج الأخلاقية المتكاملة مع نظرة الإسلام العامة للإنسان والحياة، ووضع دافعا قويا له لالتزام هذه البرامج يتمثل في نجاحه وتفوقه في الدنيا، وفوزه بالجنة في الآخرة، ضمن إطار العبودية لله سبحانه وتعالى، والبشرية اليوم وبعد جهود كبيرة بذلها الإنسان لإيجاد الصيغة الأخلاقية الأفضل، عبر الفلاسفة والفقهاء والمتكلمين والمتصوفة لمختلف المذاهب والأديان، حري بها أن تنفتح على القرآن الكريم لتجد فيه فوق ما قدمه البشر، لأنه كلام الله المنزل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الهوامش والمصادر
1/ارسطو فيلسوف يوناني،ولد في مدينة اسطاغيراوكان ابوه طبيب البلاط الملكي،التحق في الثامنة عشر من عمره بالاكاديمة عند افلاطون،فتأثر به كثيرا،اسس في سنة 225ق.م مدرسة في اثينا،سميت بالمدرسة المشائية
2/ ابو ريان،د.محمد علي،دراسات في الفلسفة القديمة والمعاصرة والعصور الوسطى،دار المعرفة الجامعية،الاسكندرية،1992م)
3/ ولد ابيقور في ساموس عام 341 ق.م من اب اثيني كان ينتحل التعليم،وام مشعوذة تمارس السحر،نذر ابيقور نفسه لتعليم الناس طريقة النجاة وتحقيق السعادة،وانشأ لهذه الغاية مدرسته في اثينا حوالي سنة 306 ق.م وكانت تسمى بحديقة ابيقور
4/(ابوريان،د.محمد علي،دراسات في الفلسفة القديمة والعصور الوسطى،مصدر سابق)
5/ مؤسس الرواقية زينون القبرصي،ولد في بلدة كيتوم من اعمال قبرص،قرأ كتب ارسطو،تصدى لتعليم الفلسفة في اثينا فاجتمع اليه التلامذة في رواق،فسمي اصحابه بالرواقيين)
6/(المصدر السابق)
7/ ولد افلوطين حوالي 205م في مدينة ليقوبوليس اي اسيوط حاليا بمصر العليا،وعندما بلغ الثامنة والعشرين من عمره اتجه الى الاسكندية،ودرس الفلسفة فيها،في الاربعين من عمره سافر الى روماوهناك اسس مدرسته وبقي فيها طيلة حياته،وكان من تلامذته المعجبين به الامبراطور جالينوس وزوجته الامبراطورة سالونين،توفي عام 270م في مدينة كمبانيا لمرض لازمه لفترة طويلة)
8/ عطيتو،د.حربي عباس،دراسات في الفلسفة القديمة والعصور الوسطى،دار المعرفة الجامعية،الاسكندرية،1992م)
9/ ولد الفارابي في سنة 257ه وتوفي سنة 339ه ،وهو ابو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن اوزلغ المعروف بالفارابي،وهو تركي الاصل وقيل فارسي،ينتسب الى فارياب من تركستان،قيل ينتسب الى فاراب،قضى الفارابي في بغداد ثلاثين عاما امضاها في الدرس والتعليم،ثم انتقل الى دمشق سنة 330ه،ثم اتصل بسيف الدولة الحمداني صاحب حلب فجعله من خواصه وضمه الى بلاطه،له عد من الكتب في الاخلاق والسياسة،منها:\”كتاب السياسة،السياسات المدنية،تحصيل السعادة،رسالة في التنبيه على سبيل السعادة،المملكة الفاضلة،المبادئ الانسانية،اراء اهل المدينة الفاضلة،جوامع كتاب النواميس لافلاطون
10/ ابو ملحم،الدكتور علي،الفلسفة العربية مشكلات وحلول،مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر،1994،بيروت)
11/ ابو ريان،د.محمد علي،تاريخ الفكر الفلسفي في الاسلام،دار النهضة العربية،بيروت،1973م)
12/ ولد ابو حامد الغزالي في عام 450 هجرية بمدينة طوس من أعمال خراسان،درس بطوس ثم بحرجان ثم انتقل عام 470 ه الى نيسابور وهناك اتصل بامام الحرمين الجويني فأخذ عنه ولازمه،ثم انتقل الى الشام وقصد نظام الملك في عسكره،وبقي معه ست سنين،ثم ولاه التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد عام 483 ه فاشتهر امره وعرفه القاصي والداني،توفي سنة 505ه)
13/(ابو ملحم،الدكتور علي،مشكلات الفلسفة العربية،مصدر مذكور)
14/ مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ) مصنف و مدقق)نقلا عن(http://www.altafsir.com/Tafasir.asp?tMadhNo=4&tTafsirNo=3&tSoraNo=68&tAyahNo=5&tDisplay=yes&Page=4&Size=1)
15/( الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق)نقلا عن: http://www.altafsir.com/Tafasir.asp?tMadhNo=4&tTafsirNo=56&tSoraNo=68&tAyahNo=5&tDisplay=yes&Page=2&Size=1
16/( مفردات ألفاظ القرآن،الراغب الاصفهاني،مؤسسة المرتضى،قم)
17/ الشيرازي،الشيخ ناصر مكارم،تفسير الامثل في تفسير كتاب الله المنزل،المجلد 18،مؤسسة البعثة،1992م)
18/(ابو ريان،الدكتور محمد علي،تاريخ الفكر الفلسفي في الاسلام،مصدر مذكور
19/(ابو ملحم،الدكتور علي،الفلسفة العربية مشكلات وحلول،مصدر مذكور
20/ الحيدري،السيد كمال،التربية الروحية،بحوث في جهاد النفس،مؤسسة الثقلين الثقافية،دار الخليج العربي للطباعة والنشر،بيروت،2000م
21/ الميزان في تفسير القرآن،ج1،ص 355)
22/(الحائري،السيد كاظم الحسيني،تزكية النفس،مؤسسة الفقه للطباعة والنشر،الطبعة الاولى،1422هجرية)
23/ للاطلاع على التفصيل يمكن مراجعة الموقع الشخصي،www.alasfoor.dk ،مقالات النجاح)