هل يمكن لنا معاشر العرب والمسلمين أن نتطلع إلى تغيير موقعنا الحضاري في هذا العالم، بعد أن أصبحنا في موقع اقل ما ينظر إلينا، أننا غير مؤهلين لتصحيح أوضاعنا بأنفسنا، وأصبح العالم الغربي الذي فرض نفسه بالقوة والغلبة، يصيغ المشاريع لإعادة رسم منطقتنا من جديد، ويحتدم عندهم الجدل بين فينة وأخرى بين مشروع وآخر، وكأنهم ينظرون لقصر، يعجزون عن تدبير شئونهم ولا يمتلكون أية خلفية فكرية وتنظيرية لتنظيم أوضاعهم.
ثم، ما الذي يمكن لذكرى المولد النبوي الشريف أن تثير فينا من حراك باتجاه تغيير موقعنا الحضاري هذا، سيما في هذا العام، مع ما تركته الصحيفة الدنمركية (1) التي أساءت لنبينا الكريم، من دلالات حضارية؟.
لنتأمل أولا تلك اللحظة التي أشرقت فيها الأرض، بنور محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، لنتعرف على المشهد الحضاري آنذاك، ثم لنعود لواقعنا.
‘,’
ولد النبي(ص)في الجزيرة العربية التي لم تكن ضمن أي مجال حيوي حضاري لاية إمبراطورية، من إمبراطوريات تلك الفترة التاريخية، ولولا البيت الحرام في مكة المكرمة الذي يمثل بقايا الأثر الإبراهيمي لكانت مكة قرية منسية لا يلتفت إليها احد، ولم تكن المدينة بأحسن حال منها.
وكان وضع العرب من التمزق والتشتت، بحيث أن الحروب أصبحت تفرخ بعضها في كل شبر من أرجاء الجزيرة العربية، حتى سجل المؤرخون عشرات الحروب عند القبيلة الواحدة، ولقد تضخمت عندهم الفردية على حساب الجماعة، والقبلية على حساب الأمة، بل لم تكن هنالك امة، يمكن التحدث عنها،وفي توصيف سريع يقول عنهم الإمام علي عليه السلام:(وانتم معشر العرب على شر دين،وفي شر دار،منيخون بين حجارة خشن وحيات صم،تشربون الكدر،وتأكلون الجشب،وتسفكون دماءكم،وتقطعون أرحامكم،الأصنام فيكم منصوبة،والآثام بكم معصوبة).(2)
وكان العرب محاطين، بإمبراطوريتين، فارسية ورومانية شرقية وغربية، ولم تكن نظرة هاتين الإمبراطوريتين للعرب، تتسم بأي لون من التقدير أو الاهتمام، وكان الملوك والحكام فيهما يحكمون البشر حكما استبداديا مطلقا، يستندون إلى دعوى حق الهي في الحكم ادعاه هؤلاء الملوك لأنفسهم، وبررته وفلسفته الكهانات التي كانت تدعمهم.
وفي الإمبراطورية الفارسية بالذات كانت الزرادشتية(المجوسية)دين الدولة الرسمي وقد تحولت إلى وثنية سخيفة، لا تهذب ضميرا ولا تدفع نحو مثل أعلى…وكان الملوك في ظل الزرادشتية قد رفعوا عن مرتبة الإنسان بما اضفي عليهم من عنصر الهي، يليهم الأشراف، ورجال الدين، وقادة الجيوش، بينما انحطت عامة الناس عن مرتبة الإنسانية بما ارتضته لنفسها من عبودية.(3)
في تلك اللحظة التاريخية ولد النبي(ص)، فما الذي حدث لموقع العرب والمسلمين الحضاري؟!
بعث النبي بالإسلام، الدين السماوي الذي انزله الله عليه ليكون خاتم الرسالات السماوية، وبمجرد أن صافح الدين عقول العرب والمسلمين وقلوبهم، تحولوا إلى كتلة واحدة، وتراجعت الفردية لصالح الجماعة، والقبلية لصالح الأمة، والفئة لصالح الحضارة، وخمدت الحروب الداخلية، وأصبحوا دعاة دين وحضارة، فانهارت إمبراطورية كسرى أمامهم في لحظة احتضار الزرادشتية، وبعد أن دان بالإسلام الشرق التابع لبيزنطة التي تراجعت إلى حدود عاصمتها و تقدم الإسلام نحو الغرب حيث امتد إلى شبه جزيرة ايبيريا وصقلية وبعض الجزر اليونانية والبلقان، وترك آثارا سياسية وثقافية مباشرة في فرنسا وشبه جزيرة إيطاليا وأوروبا الوسطى وكل البلقان.
ويؤكد المحللون الاستراتيجيون أن التقدم السريع للمسلمين باتجاه الغرب والشرق، لم يكن لميزة عسكرية عند المسلمين، فقد كانوا يواجهون ممالك مشهورة بتفوقها وقدراتها الحربية، في وقت لم يكن المسلمون يملكون فيه القوة النارية ولا التنظيم العسكري ولا حتى \”وسيلة خاصة تكتيكية أو فنية من شأنها أن تجعلهم يتفوقون على خصومهم\”كما يقول بوسكيه، بل إن ذلك كشف عن استعداد لدى الغربيين والشرقيين آنذاك للتفاعل مع مشروع حضاري جديد أكثر انسانوية يخرجهم من الأفق المسدود للحالة التي كانوا يعيشون فيها\”(4)
لقد بهر النبي العالم بإنجازه العظيم، حين استطاع تحويل شتات إلى امة قوية ذات حضارة متفاعلة مع الوحي السماوي، وآخذة بأسباب الرقي للدنيا والآخرة.
يقول المؤرخ القدير \” ويل ديورانت \” في كتابه قصة الحضارة:
\” إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من اثر في الناس قلنا أن محمدا كان من أعظم عظماء التاريخ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي و الأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحا لم يدانه فيه أي مصلح في التاريخ كله \”(5)
ويقول \” مايكل هارت \” عن رسول الله (ص):
\” لقد أسس محمد ونشر أعظم الأديان في العالم، وأصبح أحد الزعماء العالميين السياسيين العظام، ففي هذه الأيام وبعد مرور ثلاثة عشر قرنا تقريبا على وفاته فان تأثيره لا يزال قويا وعارما متجددا.
إن أكثر الأشخاص الذين كان لهم تأثير في الأرض إنما كانت لهم ميزات فائقة لأنهم ولدوا ودرجوا في مراكز حضارية، وترعرعوا في أحضان أمم ذات سمات ثقافية وسياسية واجتماعية بالغة الأهمية.
أما محمد فقد ولد في عام 570م، في مدينة مكة جنوب شبه الجزيرة العربية التي كانت في ذلك الوقت منطقة متخلفة عن الحضارة بعيدة عن المراكز الحيوية سواء كانت تجارية أو فنية أو علمية في العالم \”.(6)
وبالطبع قبل وبعد وفوق تعظيم البشر لشخصية الرسول الكريم وما تميز به من خلق حضاري قويم، كلام الله سبحانه وتعالى الذي مدح فيه نبيه قائلا:\”وإنك لعلى خلق عظيم\”.(7)
ترى.. هل يمكن لنا اليوم أن نجدد في داخلنا المشروع الحضاري، الذي ولد بولادة رسول الله(ص)، ونخرج من شرنقة المشاريع الأخرى؟!
بلى… وإننا لمطالبون بذلك، ولا خيار لنا كمسلمين إلا أن نصنع حضارة رائدة تتفاعل مع الوحي السماوي وتكون إنموذجا حضاريا لبقية الحضارات في العالم المعاصر. ولن نتمكن من ذلك إلا من خلال اتخاذنا النبي (ص) مثالا وأسوة نصوغ أنفسنا ومجتمعنا وأمتنا وفقه، وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم.
يقول تعالى:\”لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة\”(8)
وما لم نقم بذلك فإن وجودنا سيكون من دون معنى وحياتنا ستسير من دون هدف.
إن هذه الفكرة تحتاج إلى توضيح. فمن خلال تتبع تعاريف الحضارة نستنتج، أن الحضارة بوجه خاص تعني الإقامة في الحضر، والحاضرة تعني المدينة وهي ضد البداوة وتقابل الهمجية والوحشية، وتمثل مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني. وهناك من يرى (أن الحضارة هي جملة مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي التي تنتقل من جيل إلى جيل في مجتمع أو مجتمعات متشابهة). وتظهر الحضارة في كل لحظة يجسد فيها الإنسان قدرته في التغلب على مصاعب الوجود. وحسب السيد محمد بحر العلوم أن مصطلح الحضارة لم يرد في المصدرين الإسلاميين الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة إلا في الآية الكريمة، قوله تعالى:\”وسلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر\”.(9) وهذا ما يفيد المعنى اللغوي لهذا المصطلح، والذي ينص على أن الحاضرة والحضر هي المدن والقرى والريف، سميت بذلك لأن أهلها حضر الأمصار ومساكن الديار التي كان لهم بها قرار.(10)
وفي تقديري وفهمي الخاص أن هنالك لفظة في القرآن الكريم أقرب إلى إعطاء معنى ما اصطلح عليه بالحضارة، وتلزم المسلمين بالعمل الحضاري الجاد، وهي لفظة الشهادة. فإذا كانت الحضارة مشتقة لغويا من الحضور فإن الشهادة تعني الحضور الفاعل من موقع الريادة والمسؤولية. لنتأمل في لفظة الشهادة في الآيات المباركات:
يقول تعالى:\”وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله، هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير\”.(11)
وقوله تعالى: \”والذين هم بشهاداتهم قائمون\”(12)
\”وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا …\”(13)
قال صاحب المعين:الوسط من كل شيء أعدله و أفضله، ووسطية الأمة إشارة إلى إنموذجيها، وجدارتها بالإقتداء.
وبذلك فان الحضارة الإسلامية تمثل الوسط النموذجي، وهذه الوسطية تعني النظرة المتوازنة بين المادة والروح، وحق الفرد وحق الأمة، والاعتزاز بالذات والانفتاح على الآخر.(14)
وكما أن النبي (ص) أنموذج لأبناء الأمة الإسلامية للإقتداء، من خلال سلوكه الحضاري الخلاق، كذلك الأمة الإسلامية أنموذج للحضارات الأخرى، من خلال التزامها بالمعايير الحضارية التي أكد عليها القرآن الكريم. بعد أن حث على الفعل الحضاري المتمثل في البر الذي فسر بالتوسع في الخير.
يقول تعالى: \”ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين واتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة واتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون\”(15)
هذه الآية المباركة ترسم لنا المعايير الحضارية، التي ينشدها الإسلام، ولا شك أن العودة الحضارية تستدعي العودة لهذه المعايير.(16)
ومن خلال التأمل في كل آيات التقوى نجد أن الشخصية المتقية هي الشخصية الفاعلة حضاريا.
من اجل هذه المعايير التي التزمتها المجموعة البشرية التي عاشت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم استحقت ان يخلدها القرآن الكريم ويعتبرها المثل الحضاري للبشرية.
يقول تعالى:
\”كنتم خير أمة أخرجت للناس\”(17)
لقد أصبح الحديث عن الحضارة ضرورة ملحة، مع لحظة الإساءة لشخص النبي الكريم محمد (ص)من قبل الغرب، حيث أن هذه الإساءة، جاءت لتعبر عن أمرين:
1/تزايد وتيرة الخوف لدى بعض الجهات في الغرب من انفتاح المجتمعات الغربية على الإسلام ويشهد على ذلك تزايد أعداد الداخلين في الإسلام من الغرب، وبالأخص المجتمعات الإسكندنافية، التي تمثل الدنمارك بوابتها.
2/تسافل نظرة الغرب، للعطاء الحضاري لغيرهم من الأمم والمجتمعات، مما ينذر بتدهور وسقوط الحضارة الغربية.
وهذا يكشف ضرورة الحديث عن الحضارة البديلة، وفي تقديرنا لن تكون إلا حضارة إسلامية أو متأثرة بالإسلام بالدرجة الثانية، وفي تقديري أن سقوط الحضارة الغربية سيخلف نتائج كارثية ليس على العالم الغربي فقط بل على كل أرجاء العالم. وإن من واجب المسلمين أن يؤهلوا أنفسهم للريادية الحضارية كمسؤولية يلزمهم بها القرآن الكريم، ناهيك عن ضرورتها كشرط وجود لهم في العالم المعاصر.
ولم يعد خافيا ما أكدته دراسات غربية وغيرها من وصول الحضارة الغربية إلى طريق مسدود ولجوئها في كل مرة إلى التوسل بالقوة والسيطرة لاستنقاذ ذاتها من الأفول.
تؤكد دراسات عدة وأقوال لفلاسفة غربيين وغيرهم أن الحضارة الغربية تعاني من أزمة حادة يمكن لها أن تقوض هذه الحضارة، فقد ذهب اشبنجلر إلى أن هذه الحضارة وصلت إلى طور الشيخوخة وأنها غير قادرة على تجديد شبابها فهي كالعجوز التي تنتظر لحظة الوفاة، ويقول اشفستر إنها حضارة تفتقد المبرر الأخلاقي لاستمرارها،أما تونبي فيقول إنها حضارة من دون رسالة،وان تقوقعها على ذاتها وفي قومياتها سر اندفاعها نحو الهاوية، ويقول وليم ليند (مدير مركز الحركة الحضارية المحافظة في مؤسسة التربية والأبحاث الحرة في الكونجرس الأمريكي)، قد يصبح الوجود الحقيقي للحضارة الغربية مهددا بالزوال إذا ما استمر الانحطاط داخليا مترافقا مع تصاعد عداء الحضارات الأخرى في الخارج، والغريب أن بريق هذه الحضارة الخارجي لا يزال قويا،بينما عجلة الأفول تتسارع في داخلها.(18)
إن سر ذلك يكمن في الفكرة التي قامت عليها هذه الحضارة، فهي قد قامت على المادة\”تراكم الثروة\” وترعرعت بترعرع المادة، وستنهار سريعا حين تتداعى المادة، وهذا واضح في التغيرات الكبرى التي تحدث في المجتمعات الغربية حين تغير الأوضاع الاقتصادية، فتحاول الاستعانة بالقوة لتدارك التراجع الاقتصادي، ولا يبدو أنها في كل مرة ستنجح في ذلك.(19)
ولا يمكن لنا أن نفسر جنوح الغرب متمثلا في الحضارة الأمريكية باتجاه المناطق الإسلامية إلا لحل أزمة داخلية. ولا يمكن لنا إلا أن ننظر بعين الشك والريبة لأي مقترحات إصلاحية لمنطقتنا وإن من واجبنا أن نتغلب على ما يشكل نقاط ضعف عندنا، كما شخصوها في مشروعاتهم كالاستبداد السياسي والتخلف المعرفي والعلمي وتراجع مكانة المرأة وحقوق الإنسان وغيرها..
وفي تقديري أن اللحظة التاريخية تفرض علينا مراجعة شاملة لطريقة تفاعلنا مع الوحي السماوي للخروج من الأزمات التي تحيط بنا سيما التفسير المتطرف للدين واستعمال مفهوم الشهادة في غير موقعه.
الهوامش:
(1)يولند بوستن، سبتمبر2005م
(2)الإمام علي بن أبي طالب\”نهج البلاغة\”
(3)الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الجاهلية والإسلام
(4)د.علي دبب الشامي، النظام العالمي بين الإسلام والغرب، الفصل السابع.
(5)\”ويل ديورانت، قصة الحضارة، فصل الحضارة الإسلامية
(6)ميكل هارت، المئة الأوائل
(7)القلم، 4، القرآن الكريم
(8)الأحزاب،21،القرآن الكريم
(9) الأعراف، 163، القرآن الكريم.
(10)د.السيد محمد بحر العلوم، الحضارة الإنسانية، بحوث للجامعة العلمية للعلوم الإسلامية، لندن.
(11) الحج، 78، القرآن الكريم
(12) المعا رج، 33، القرآن الكريم.
(13)(البقرة، 143).القرآن الكريم.
(14)محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن.
(15)البقرة، 177، القرآن الكريم.
(16)للإطلاع على تفسير هذه المعايير يمكن مراجع تفسير المثل.
(17)آل عمران،110،القرآن الكريم.
(18)للمراجعة، دراسة للكاتب بعنوان، مستقبل الإسلام في ظل نظريات السقوط الحضاري.
(19) الحضارة الغربية، بحث غير منشور للدكتور علي ديب الشامي.مقدم لندوة الحضارة الإنسانية، للجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، لندن