أصبح من الصعب على الإنسان المعاصر، أن يقف موقفا رافضا للدين، إذ ثبت لديه بما لا يدع مجالا للشك أن الدين حاجة ضرورية للإنسان، كحاجته الأولية التي تشكل دوافعه البيولوجية في الحياة.
وإذا كان من الصعب على علماء النفس أن يضعوا الدين في احد خانات الحاجات التي تقف وراء دوافعه، لانطلاقهم من واقع الحاجات ذات المصدر ألشهودي \” الأرضي\” للإنسان، فان أصحاب التجربة الدينية يعتبرون التدين استجابة لحاجة فطرية لدى الإنسان. وبذلك يكون النزوع الديني مصدرا داخليا ينطلق من حاجة أولية لا يمكن للإنسان الفكاك منها، كما لم يمكن له الفكاك من حاجاته الأولية كالغذاء والجنس.
‘,’
ولقد كان مكابرة من الإنسان تنكره لهذا النزوع، ومحاولاته المستميتة للتقليل من أهميته. ولم تكن نتيجة هذه المكابرة إلا مخالفة الإنسان لحقيقة . قابعة بداخله، وهذا ما تؤيده لفظة \” الكفر \” التي يستخدمها المصطلح الإسلامي للذي تنكر لهذه الحقيقة الدينية، فكفر يعني غطى وستر، والكافر: الزارع لستره البذر بالتراب، وهو الليل المظلم لأنه ستر بظلمته كل شيء، وبهذا المعنى يكون الكافر هو الذي يغطي إيمانه ويحجبه ويمنعه من الظهور. (1)
وسيكون أيضا، تخلف في ترتيب اولويات اهتمام الإنسان إذا جعل الدين اليوم في موقع متأخر في جدول برامجه التنموية والحضارية.ذلك لان ظاهرة التدين في حياة الإنسان تعد من أقدم وأضخم الظواهر التي شهدها تاريخه، بل لم توجد فترة في مسيرته التاريخية خالية من التعبير الديني عن حاجته الفطرية. وقد كان هذا التعبير يعطي للحياة عند الإنسان معنى تصبح الحاجات الأخرى من خلاله مبررة.
و\” إذا كان أرسطو قد عرف الإنسان بأنه حيوان ناطق \”إي مفكر فقد عرفه غيره من الفلاسفة بأنه \”حيوان متدين \” فذهب هيجل ، مثلا إلى \” أن الإنسان وحده هو الذي يمكن أن يكون له دين ، وان الحيوانات تفتقر إلى الدين بمقدار ما تفتقر إلى القانون و الأخلاق \” ، ذلك لان التدين عنصر أساسي في تكون الإنسان ، والحس الديني ، إنما يمكن في أعماق كل قلب بشري ، بل هو يدخل في صميم ماهية الإنسان،مثله في ذلك مثل العقل سواء بسواء \”(2)
وان محاولات إجابة الإنسان عن هذه الحاجة الفطرية \” أدت إلى نشوء كثرة من الديانات، منذو أن دب على ظهر الأرض إنسان، فكانت الأساطير و الخرافات والسحر والشعوذة ومحاولات السيطرة على القوى الخفية والتقرب إليها بالأضاحي و القرابين. مما يزخر به تاريخ الشعوب في الشرق و الغرب، على حد سواء ! ثم ظهرت ديانات اشهر في تاريخ البشرية كالزرادشتيه.. حتى نزلت الديانات السماوية الكبرى: اليهودية و المسيحية و الإسلام \”(3)
ويمكن القول من خلال قراءة المعتقدات الدينية لدى الشعوب، أن التعبير عن النزوع الديني لدى الإنسان جاء في بعض الفترات ولدى بعض الشعوب بأسلوب غاية في التخلف، كما أن فئة من البشر حاولت بكل ما أوتيت من حيلة ودهاء استغلال هذا النزوع للهيمنة على الناس وتسخيرهم، وهذا ما يمكن لنا أن نسميه بأدلجة الديانات، ولعل هذا التخلف في التعبير عن الحاجة الدينية والهيمنة باسم الدين، هو ما دفع بعضا من الناس لنكران الحاجة الدينية من الأساس.
والحق أن الدين هو الإطار الذي يمكن للإنسان أن يدرك من خلاله غاية وجوده، وعلى ضوئه يمكن له أن يفسر ماهية الحياة التي يعيشها بين لحظتين جبريتين، الولادة والموت. وما لم يقع الإنسان على الدين الحق فانه سيعيش قلقا دائما وان عاش حالة مدنية في غاية الرفاه.
ولان اصل التدين، الإيمان بقوة غيبية تهيمن على الكون و الإنسان، كان لابد لنا من الرجوع إلى مصدر يكشف لنا عن هذه القوة وغايتها من هذا الخلق. وهذا ما تكفل به الوحي. الذي نقل بواسطة أنبياء عظام عرفوا في تاريخ البشرية بالصدق والنزاهة والقدرة على الإتيان بما يصعب على سائر الناس، دون ادعاء أن ذلك من عندياتهم، بل بتأكيد شديد منهم ، أنهم رسل من الله سبحانه وتعالى . وهذا ما يجعل البشرية في قبال حقائق كبرى لا يمكن لها نكرانها أو صياغة برامجها بعيدا عن هدى الوحي .
فمن ناحية كشف الوحي عن حقيقة هذه القوة الغيبية التي تهيمن على الكون والإنسان وأنها هي الله سبحانه وتعالى، فلم يعد من مجال للإنسان إلا التصديق بالألوهية كأهم حقيقة في حياة الإنسان. ومن جهة أخرى على الإنسان أن يتعامل بشكل جدي مع الرسالات التي جاء بها الأنبياء من الله سبحانه وتعالى، وأي تخلف عن الأخذ بتعاليم هذه الرسالات، لن يعد إلا تنكرا لحقائق أولية في الحياة ، وهذا ما سيؤدي إلى تخلف أكيد على كافة صعد الحياة . وابتعاد عن تحقيق السعادة المنشودة . إضافة إلى أن المصير الذي ينتظر الإنسان بعد الموت-و حسب ما أفاد الوحي – ليس بالأمر الذي يمكن لأي عاقل أن يتجاهله .
غير أن الإنسان لم يكن ليسلم بسهولة للوحي، إذ هو ليس أكثر من تجربة شخصية يعيشها نفر محدود من البشر، وهي غير قابلة للتجريب من قبل غيرهم.وبذلك يعتبر الوحي خلاف العلم وفق هذا التصور، وما لم يثبته العلم ليس بحقيقة ويجب إنكاره. لكن الإنسان ذاته عاجز عن تحديد طريقة واحدة لإثبات الحقائق، فلقد ظن في احد فترات النهوض العلمي في قبال الفلسفة والدين، أن المنهج التجريبي هو الأداة الوحيدة التي يمكن من خلالها إثبات الحقائق العلمية، وأراد لهذا المنهج أن يطبق على كافة العلوم بما في ذلك العلوم الإنسانية، لكنه وجد أن هذا المنهج عاجز بشكل كبير عن ذلك .وبات مؤكدا اليوم أن هناك منهجا لكل فرع من العلوم ، وان الحقائق العلمية والمعرفية يمكن للإنسان أن يؤمن بها ، وان لم تخضع للتجريب .
وهذا الأسلوب من التفكيرـ الاقتصار على منهج التجريب ـ لم يترك آثاره السيئة في موضوع الوحي فحسب ، بل في العديد من البحوث الفلسفية والعقائدية الأخرى . وبذلك فان هذا التفكير قاصر،ولن يستطيع أن يستوعب كافة الحقائق المتصلة بالإنسان،كذلك فان إتباع هذا النهج لم يذكروا أي دليل على تقييد جميع الكائنات في العالم بالكائنات المادية وما ينتج عنها .
والحق أننا لا يمكننا الإطلاع الواسع – بلا شك – على حقيقة الوحي وارتباطاته وآلياته، لأنه نوع من الإدراك خارج عن حدود إدراكنا ، وهو ارتباط خارج عن حدود ارتباطاتنا المعروفة.(4) ولعل هذا ما جعل البعض يشكك في حقيقة الوحي،لكن الحقائق المعرفية التي كشف عنها الوحي لا تدع مجالا للشك في صدورها من علي حكيم،إضافة إلى ماكان يتمتع به الانبياءالعظام في تاريخ البشرية بالطهر والصدق والإخلاص في أداء رسالتهم ورقة مشاعرهم اتجاه الناس حولهم .
ورغم العدد الكبير من هؤلاء الأنبياء إلا أن أحدا منهم لم يقل هو و لم يفد الوحي بأنه خاتم النبيين والمرسلين سوى النبي محمد (ص) . الأمر الذي يعني أن الوحي ختم بالنبي محمد (ص) وان السماء ألقت إلى الناس آخر كلماتها معه . وهو ما يجعل البشرية تبحث عن خلاصها برسالات السماء من خلال فهم واستيعاب ما جاء في هذه الرسالة الخاتمة \” الإسلام \” .
جاء في القرآن الكريم كبيان واضح ليس به اي لبس يشير الى خاتمية النبي محمد (ص) :
\”ما كان محمد ابا احد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما\”(5)
والخاتم كما يقول ارباب اللغة : هو الشيء الذي تنتهي به الامور ، وكذلك جاء بمعنى الشيء الذي تختم به الاوراق وما شابهها . اضافة الى ان هذه المادة قد استعملت في القرآن في موارد متعددة ، وكلها تعني الانهاء أو الختم والغلق،مثل :\”اليوم نختم على أفواههم وتكلما ايديهم\”(6)
\”ختم على قلوبهم ، وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة\”(7)
وبناء على كون النبي محمد(ص) خاتم النبيين،والإسلام خاتم الرسالات السماوية،يفترض ان يكون لدى هذا الدين ما يثبت احقانيته في الاتباع بالاتيان بما يعجز البشر عن الاتيان به، فلقد كان من المعتاد لدى اي واحد من الانبياء اثبات صدق رسالاتهم ، عبر عمل اعجازي يأتون به ، و كون النبي محمد (ص) خاتما لكل هؤلاء الانبياء يستلزم ان يأتي بما يثبت صدق رسالته مما يفوق ما جاء من اعجاز سبق عليه ، واعجاز يستحيل على البشرية ان تأتي بمثله .وان أهم مجال تقدم فيه الانسان اليوم هو المعرفة ، و يفترض في رسالة النبي ان تقدم نظاما معرفيا متقدما على ما توصل اليه الانسان ،وهذا بالضبط ما يؤكد عليه القرآن الكريم ، اذ هو حقائق علمية ومعرفية لاتزال متقدمة على ما كشفه العلم من اسرار الوجود ، بل كلما تقدم الانسان في العلم كلما اقترب من الايمان برسالة الإسلام اكثر. فالقرآن ذاته يؤكد على ذلك اذ يقول :\”
ويرى الذين اوتوا العلم الذي انزل اليك من ربك هو الحق ويهدي الى صراط العزيز الحميد\”(8)
وقد فسر بعض مفسري القرآن الكريم عبارة \” الذين أوتوا العلم \” ، بتلك المجموعة من علماء اهل الكتاب الذين يقفون موقف الخضوع والاقرار للحق عند مشاهدة آثار حقانية القرآن الكريم .وليس هناك مانع من اعتبار علماء أهل الكتاب احد مصاديق الآية ، ولكن تحديدها بهم ليس له ادنى دليل ، بل مع الالتفات الى الفعل المضارع (يرى) وسعه مفهوم \” الذين اوتوا العلم \” يتضح شمول الآية لكل العلماء و المفكرين في كل عصر وزمان ومكان .وبذلك فان اي عالم موضوعي وغير متعصب اذا تأمل في ما ورد في هذا الكتاب السماوي ، واخذ من معارفه العميقة ، واحكامه المتينة ، ونصائحه الحكيمة ، ومواعظه المؤثرة في الوجدان الى قصصه التاريخية المشعة بالعبرة ، وبحوثه العلمية الاعجازية ، فسيعلم بانها جميعا دليل على حقانية الوحي.(9)
اذن يمكن القول ان مستقبل الانسان رهين تفاعله مع هذا الدين الخاتم،لكن الواقع الذي تعيشه البشرية اليوم ومنذ اكثر من اربعة قرون يشهد بالتفوق للحضارة الغربية التي اصطدمت في مسيرتها بالدين الذي تعرفت عليه،بل انها لم تستطع الانطلاق الا بعد ان فكت الارتباط بين ما هو ديني وما هو علمي،وكأنما افادتها تجربتها ان الدين معوق لمسيرة العلم.لكنها اليوم من جديد تتوصل الى حقيقة ان الازمة لم تكن في الدين والنزوع الديني لدى الانسان وانما في التوظيف الخاطئ للحقائق الدينية في حياة الناس،سواء من الانسان نفسه الذي يريد التعبير عن نزوعه الديني ام من المتسلطين الذين يؤدلجون الدين لمصلحة فئة بشرية.وبدى بصيص امل في العودة للدين من قبل الغرب.ولكن اي دين؟
لاشك ان المسيحية لن تستطيع الاجابة على اسئلة القرن الواحد والعشرين بعد ميلاد السيد المسيح عليه السلام،وليس هذا شك في صدورها عن العلي القدير،وان كانت النصوص المتوفرة بايدي المسيحين اليوم لاتمثل الوحي المنزل على السيد المسيح،بل لان المسيحية لم تكن الرسالة الخاتمة التي ارادها الله سبحانه وتعالى ان تستوعب كافة التطورات لدى الانسان.بل اراد ذلك للاسلام،وهذه ارادة لاشأن للانسان بها بل اختيار الهي كما اختيار الانبياء والاوصياء.
هذا الفهم يجعل المتطلع لمستقبل افضل للبشرية،حريصا على استكشاف امكانيات اقامة علاقة متفهمة بين الإسلام كدين سماوي والغرب كحضارة لاتزال واقفة على قدميها بكل عزيمة واصرار رغم الاسس الواهية التي استقرت تحت القدمين.
ضمن هذا التصور يمكن القول بضرورة وجود الدراسات،التي تحاول البحث في إمكانيات مستقبل الإسلام في الغرب،وهو المستقبل الذي سيحدد مستقبل البشرية كلها،فبالإضافة إلى كون الإسلام خاتم الرسالات السماوية،فان الغرب يمثل اليوم خلاصة الحضارات البشرية،واللقاء أو الافتراق بينهما سينعكس على نوعية الحضارة التي سيعيشها الإنسان على وجه الأرض،فان كان لقاءا سادت حضارة السلام والرخاء في دنيا الناس أجمعين،وان كان افتراقا تجددت المآسي والويلات للبشرية قاطبة.
ويمكن للباحث أن يجد إمكانيات مستقبل الإسلام في الغرب، في ضوء النظرة الموضوعية للعلاقة التاريخية بين الإسلام والغرب، ونظريات الغرب عن حضارته، وما يتمتع به الإسلام من ديناميكية ذاتية، بالإضافة إلى كثافة الوجود الإسلامي في الغرب، الذي يمكن له أن يقوم بدور أساس في إعطاء العلاقة بين الإسلام والغرب منحى ايجابيا.
ولابد من التأكيد أن المقصود بالإسلام ذلك الدين السماوي الذي انزله الله سبحانه وتعالى على النبي محمد (ص) وهو آخر الأديان وخاتمها، وليس الإسلام كبنية تاريخية اوايديولوجية سياسية خص بها مجموعة من البشر، كما تحاول بعض الدراسات الـتأكيد عليه، بل هو رسالة سماوية مكملة لكل رسالات السماء السابقة عليها وخاتمة لها.وهي رسالة جامعة كمرجعية فكرية وتشريعية لكافة احتياجات الإنسان في شتى مجالات الحياة وأما الغرب فله تحديدان، جغرافي وحضاري ثقافي، والأهم بعده الحضاري الذي يمتد إلى ابعد من الرقعة الجغرافية الغربية التي كانت محصورة في أوروبا.
لقد عاش المسلمون القاطنون في الجغرافية الغربية، والذين هم على تماس مع المجال الحضاري للغرب تفاؤلا بشان مستقبل مشرق للإسلام في الغرب،وقد انعكس هذا التفاؤل على ترسيم الإسلام في عدد من البلدان الغربية،وإعطاء المسلمين حق الممارسة التعبدية طبقا لدينهم،وكان الأمل يحدوهم بنيل حقوق إضافية.غير أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من إرهاصات إرهابية حسبت على الإسلام،وما حدث في مدريد ولندن،جعل التفاؤل يتراجع إلى حد التشاؤم،وأصبح الحال في غير مصلحة الإسلام ولا الغرب على حد سواء.
وهذا بالذات ما يجعل من الدراسات المهتمة بفتح أفاق جديدة في العلاقة بين الإسلام والغرب ضرورة في هذه اللحظة التاريخية.
فأين يمكن أن نجد هذه الآفاق؟؟
يتبع في العدد القادم
هوامش :
(1)هكذا تذهب التفاسير للمعنى اللغوي لكلمة كفر.
(2) جفري بارندر،المعتقدات الدينية لدى الشعوب، عالم المعرفة 173 ترجمةد. امام عبد الفتاح امام – المقدمة ص 7 نقلا عن هيجل \” موسوعة العلوم الفلسفية \”
(3)المصدر ص8
(4)الشيخ ناصر مكارم الشيرازي،الامثل،مجلد15،ص531،مؤسسة البعثة،بيروت1992م.
(5)سورة الاحزاب/40
(6) سورة يس/65
(7)سورةالبقرة /7.
(8) سورة سبأ/6
(9)الامثل ج 13 ص 358.مرجع مذكور.