من الواضح أن النبي(ص)لم يرد للعلاقة مع الغرب أن تتخذ طابعا صراعيا، كما تبين لنا في مقالة سابقة، من خلال فحص طبيعة العلاقة التي أرادها الإسلام مع الغرب على ما يوضحه في سورة الروم، فالإسلام رسالة سماوية تنظر لما سبقها من رسالات سماوية أنها جزء من مكوناته،ويتوجب على المؤمنين به أن يؤمنوا بها ويعتقدوا في الأنبياء جميعا ما يعتقدون في النبي محمد(ص) كونه نبيا ورسولا من الله سبحانه وتعالى.
‘,’
نعم إن كون النبي خاتما للمرسلين يوجب عليه أن يوصل الدين الإسلامي للناس كافة، ذلك أن هذا الدين يمثل الصيغة النهائية للرسالات السماوية،ولأنه في ذات اللحظة لا يقوم الإيمان به على أساس من الإكراه،لزم أن تكون هنالك صيغة تضمن التعايش الايجابي بين أتباع الرسالات السماوية وأتباع الدين الجديد.وهذا بالفعل ما نجده في التشريعات الإسلامية لمن اسماهم أهل الكتاب .
لكن الذي حدث في علاقة الإسلام مع الغرب ـكاهل كتاب ـ أبان حياة رسول الله(ص)، أن اقرب الإمارات العربية المنضوية تحت الإمبراطورية الرومانية، وقفت موقفا عدائيا من الإسلام ،وتآمرت مع منافقين يعيشون في الدولة الإسلامية الفتية ،وبيتوا النية مع حلفائهم لتقويض دولة النبي(ص)كما تذهب لذلك روايات في مصادر تاريخية.ولم يكن للنبي كرسول وكمؤسس دولة أن يقف موقفا لااباليا من هذا التحدي الصارخ.
ومن هنا تكمن اهمية دراسة لحظات الاحتكاك بين الاسلام في عهد النبي (ص) والغرب،سيما دراسة غزوتي مؤتة وتبوك،حيث يتبين ان النبي (ص)كان حريصا على نشر دعوته بالطرق السلمية وبعد ان وجه الرسائل لحكام تلك المناطق،بينما حكام تلك المناطق قابلوا الكلمة بالسيف والدين بالسياسة،ما صنع علاقة اتسمت بالصراعية بين الاسلام والغرب،حتى يومنا هذا.
تشير المصادر التاريخية ان الرسول(ص):
\”في السنة الثامنة للهجرة بعث الى الغساسنة،وكانوا من العرب الضاربين على حدود الشام،رسولا يدعوهم الى الإسلام،فقتلوه\”.(1)
كذلك تشير الى انه(ص):
\”بعث كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلا الى ذات اطلاح من ارض الشام ولما انتهوا اليها وجدوا جمعا كبيرا من الناس فدعاهم كعب بن عمير الى الإسلام فأجابوه بالنبل والسيوف فقاتلهم المسلمون اشد قتال حتى قتلوا عن آخرهم ولم ينج منهم سوى رجل واحد\”(2).
ومن خلال متابعتنا لبدايات الاصطدام بين المسلمين والغرب ،نجد ان اول معركة في ذلك كانت معركة مؤتة التي جهز اليها النبي(ص) ثلاثة آلاف مقاتل وامرهم بالخروج الى بلاد الشام لدعوة اهلها الى الإسلام،او قتالهم حال وقوفهم في وجه الدعوة الإسلامية ورفضهم شروط المسلمين،وكان ذلك في الشهر الخامس من السنة الثامنة للهجرة.
وحسب السيد هاشم معروف الحسني:فقداختلف المؤرخون في الدوافع الى هذه الغزوة،و ذكروا ثلاثة دوافع:
الاول:قال بعضهم ان الدافع اليها هو الانتقام للحارث بن عمير الازدي ، وكان قد وجهه النبي (ص) بكتاب الى ملك بصرى ، فلما نزل مؤتة تعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني وقال له اين تريد فقال الشام ، قال لعلك من رسل محمد قال :نعم فأوثقه رباطا ثم قدمه وضرب عنقه ،ولم يقتل غيره من الرسل الذين وجههم النبي الى الملوك والروساء خارج الحجاز ، فكان لهذه الحداثة وقع شديد على النبي والمسلمين ، فارسل رسول الله هذا الجيش المؤلف من ثلاثة آلاف للاقتصاص من ذلك الوالي واتباعه .
الثاني:قيل ان هذه السرية كانت للانتقام لسرية كعب بن عمير التي ارسلها النبي (ص) الى ذات اطلاح في بلاد الشام يدعوهم الى الإسلام ، وكان من امرها ان قابلتهم تلك الحشود التي تجمعت في ذلك المكان بالسيوف والنبال ولم يفلت منهم سوى رجل واحد وقع جريحا ، ثم تحامل بعد انتهاء المعركة وانصراف الناس من بين القتلى مثخا بالجراح ورجع الى المدينة ليخبر النبي بما جرى له ولاتباعه الى غير ذلك مما قيل حول اسباب هذه الغزوة ودوافعها .
الثالث: ليس ببعيد ان يكون الدافع الى هذه الغزوة المؤلفة من جيش لا يتجاوز الثلاثة آلاف مقاتل كما تجمع الروايات على ذلك بعد ارسال الرسل الى هرقل وغيره من الملوك والامراء ، هو ان النبي (ص) لم يرسل الى عرب الحجاز وحدهم بل ارسل الى العالم باسره ، وبعد ان اصبح بحكم المطمئن على دعوته في شبه الجزيرة كان يفكر ان يجد لها منفذا خارج المنطقة التي انطلقت منها ، وكانت الدولة الرومانية هي الدولة الكبرى التي امتد نفوذها لبلاد الشام المتصلة بحدود الحجاز وصلة المكيين والحجازيين بتلك البلاد اوثق من صلتهم باي بلد آخر ، فارسل دعاته اولا وقواته ثانيا لا للحرب ولكن للدعوة الى الإسلام : اما الحرب فهي آخر ما كان يفكر فيه ، ولذا فقد اوصى قواد تلك السرية بالدعوة الى الإسلام وبذل جميع المحاولات لاقناعهم وان لا يستعملوا القوة الا اذا اضطروا اليها كما كان يصنع هو نفسه في غزواته مع مشركي مكة وعرب الحجاز ويهودها .
وانطلق الجيش متجها نحو مشارف الشام فنزل وادي القرى واستراحو بها ، ولكن اخبارهم كانت قد سبقتهم وبلغت المناطق التي يتولاها شرحبيل عامل هرقل فجمع القبائل من حوله ، وارسل الى هرقل ليمده بجيش من عنده فامده بعدد كبير من العرب .
وتذهب بعض الروايات ان هرقل بنفسه خرج على راس ذلك الجيش كما تذهب بعضها انه ارسله بقيادة اخيه (تيودور ) حتى اجتمع من الروم والعرب لمقابلة جيش المسلمين مائة الف ، او مائتا الف حسب اختلاف الروايات في ذلك . ولما انتهى المسلمون الى معان بلغتهم اخبار تلك الحشود ، وقيل ان اخبارها بلغتهم وهم في وادي القرى فاقاموا ليلتين يتداولون الراي بينهم في الرجوع والمضي ، فارتأى فريق منهم ان يكتبوا الى النبي ويخبروه باستعداد القوم وعدد جيوشهم ، فاما ان يمدهم بالرجال ويامرهم بالمضي ، او يامرهم بالرجوع ، وكاد هذا الراي ان يتغلب لولا ان عبد الله بن رواحة وقف في القوم يشجعهم ويقول : ياقوم والله انا لم نكن نقاتل الناس بعدد وكثرة بل نقاتل بهذا الدين الذي اكرمنا الله به ،فانما هي احدى الحسنيين اما ظهور على العدو ، واما الشهادة فكان لهذه الكلمات اثرها الطيب على تلك النفوس المؤمنة فصمموا على المضي والقتال مهما كانت النتائج ومضوا في طريقهم ، فلما بلغوا ارض البلقاء بلغهم ان جيش الروم يرابط في قرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ، فانحاز المسلمون الى قرية يقال لها مؤتة وعبأوا جيوشهم بها ولما التقى الجمعان ثلاثة آلاف مسلم من جهة ، ومائتا الف من جيوش الروم في مقابلهم في الجهة الثانية ، فاخذ الراية زيد بن حارثة وحمل على القوم بمن معه من المسلمين بسيوفهم ورماحهم يقاتلون قتال المستميت الذي لا يطمع في الحياة ابدا وظل يقاتل ويشد على القوم فترةمن الزمن حتى قتل فاخذ الراية جعفر بن ابي طالب ومضى بها يقاتل ويشد على القوم بسيفه فينفرجون عنه وهم كالسيل لا يدرك البصر آخرهم .حتى قتل .ثم اخذ الراية عبد الله بن رواحة وقاتل حتى قتل.
وجاء في كتب السيرة والتاريخ انه لما قتل عبد الله بن رواحة انهزم المسلمون فاخذ الراية ثابت بن ارقم وجعل يصيح بالانصار فرجع اليه جماعة منهم فقال لخالد بن الوليد خذ الراية يا ابا سليمان فاخذها خالد بن الوليد وحمل بمن معه على جيش الروم وجعل المشركون يحملون عليه حتى دهمه منهم بشر كبير ، فانحاز بالمسلمين وانكشفوا راجعين.(3)
ويؤكد السبحاني ان هرقل لما بلغه خبر توجه المسلمين نحو الشام ارسل جيشا كبيرا لمساندة حاكم تلك المناطق من قبله\”شرحبيل\”.
وقد اعد شرحبيل وحده مائة الف فارس من مختلف القبائل القاطنة في الاراضي الشامية ووجهه الى حدود الشام لايقاف الجيش الإسلامي،وقد اعد قيصر قبل ذلك مائة الف جندي رومي فنزل في منطقة تدعى\”مآب\”من مدن البلقاء،واستقر هناك كقوة احتياطية تتدخل عند اللزوم.(4)
ويمكن لنا القول في ضوء المعلومات المتوفرة لدينا عن هذه المعركة ان النبي (ص) لم يكن يستهدف الاصطدام مع الجيش الروماني بل اراد لهذه التظاهرة العسكرية ان تكون قوة ردع لحماية الدعاة الى الإسلام بعد ان قتل دعاة سابقون. يؤيد ذلك ان المسلمين انفسهم لم يكونوا على رأي واحد بشأن المواجهة مع هذه الجيوش الضخمة بل انهم وكما يبدو لم يكونوا يتوقعون هذه الاعداد الكبيرة.كما ان التكتيك الذي اتبعه خالد بن الوليد بالانسحاب من ارض المعركة وموقف النبي من ذلك يدعم هذا التصور.
ففي شرح النهج عن ابي سعيد الخدري ان قال :اقبل خالد بالناس منهزمين، فلما سمع اهل المدينة بهم استقبلوهم الى الجرف وجعلوا يحثون في وجوههم التراب، ويقولون لهم يافرار فررتم في سبيل الله، فقال النبي لهم :ليسوا بالفرار ولكنهم كرار، واضاف الى ذلك الواقدي انه ما لقي جيش بعث مبعثا ما لقي اصحاب مؤتة من اهل المدينة لقد قابلوهم بالشر حتى ان الرجل كان يأتي اهله وبيته فيدق الباب فيأبون ان يفتحوا له ويقولون الا تقدمت مع اصحابك فقتلت كما قتلوا، وجلس الكبار منهم في بيوتهم استحياء من الناس حتى ارسل اليهم رسول الله رجلا رجلا وقال لهم انتم الكرار في سبيل الله.(5)
وهذا يكشف أن النبي (ص) لم يرسل هذا الجيش بهدف عسكري هجومي،بل أراد له ان يكون قوة دفاعية،تسمح للدعاة فيه،بدعوة الناس للدخول في الإسلام عن قناعة وقبول.وهوما يجعلنا نؤكد ان الغرب في بدايات نشر الدعوة في مناطقه،او المناطق المحسوبة حضاريا وسياسيا عليه،وقف موقفا ممانعا بالقوة العسكرية،واستمرت هذه اللغة من قبله مسيطرة في تاريخ العلاقة بين الاسلام والغرب.
وسوف تكتمل الصورة اكثر حين التعرض لغزوة تبوك في مقالة قادمة ان شاء الله.
الهوامش:
1) ابراهيم،د.حسن،تاريخ الإسلام ج1ص137.
2) الحسني،هاشم معروف، سيرة المصطفى ص565،دار التعارف،بيروت 1986م.
3) المصدر السابق ص565 ،566،567،568،569،571.بتصرف.
4) السبحاني،الشيخ جعفر، سيد المرسلين ج2 ص444،مؤسسة النشر الإسلامي،قم.
5) سيرة المصطفى ص571.