إضاءات قرآنية في طريق النجاح (14) – لا للنجاح على حساب الآخرين


هنالك من ينجح ويسحب معه آخرين للنجاح، وهنالك من ينجح مع الآخرين، وهنالك من ينجح على حساب الآخرين، وقد سبق القول في احد المقالات أن الإسلام يريد نجاحا للمجتمع كله، وحتى النجاح الفردي يريد منه أن يساهم في سحب نتائجه على الآخرين، ولا يرتضي أبدا، بل يحرم أن ينجح الواحد منا على حساب معاناة الآخرين، لذلك نجده يحرم الاحتكار، والاستغلال، والاحتيال على الناس من اجل الثراء السريع.

ومن ابرز صور النجاح على حساب الآخرين، استغلال حاجتهم، للكسب على حسابهم، ومثال ذلك انتهاز حاجتهم الماسة للاقتراض بفرض زيادة على المبلغ المقرض لهم، دون أن يمتلكوا خيارا آخر، يجنبهم هذه الزيادة، وهذا هو الربا الذي حرمه الإسلام. وربط بين تركه والنجاح في الحياة.

يقول تعالى:\”يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون\” 130/آل عمران.

ذكر المفسرون أن البيئة الجاهلية قبل الإسلام كانت طافحة بالمعاملات الربوية، وكان أكلهم للربا في جاهليتهم، أن الرجل منهم يكون له على الرجل مال إلى اجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال:أخر عني دينك، وأزيدك على مالك!فيفعلان ذلك.بل كان جاريا حتى على مستوى القبائل والجماعات في تبادلهم المنافع، فقد جاء في تفسير الطبري، عن عطاء قال:كانت ثقيف تداين في بني المغيرة في الجاهلية، فإذا حل الأجل، قالوا:نزيدكم وتؤخرون! فنزلت الآية.

وقد كانت هذه الطريقة في التعامل مبعثا للكثير من المآسي الاجتماعية، ومعوقا لتنمية قطاعات كبيرة في المجتمع، إذ تعوق تحت تأثير أغلال الربا، الذي يتضخم مع مرور الأيام بصورة تلقائية، وإذا بالإنسان نفسه يتحول إلى سلعة تباع وتشتري.ولهذا فقد استخدم القرآن الكريم ـ حسب تفسير الأمثل ـ التدرج في تحريم الربا، لكونه عملية اقتصادية ضخمة في ذلك المجتمع، ولا بد من القضاء عليه بشكل هادئ ليمنع الآثار السلبية المترتبة على ذلك في المجتمع، وقد تم ذلك عبر مراحل أربع:

1/توجيه النصح الأخلاقي في المعاملات الربوية، وذلك في الآية 39 من سورة الروم، حيث يقول تعالى:\”وما أتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون\” 39/الروم.
وبهذا يكشف عن خطا الذين يتصورون أن الربا يزيد من ثروتهم، في حين أن إعطاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله يضاعف الثروة.

2/يشير ضمن انتقاد عادات اليهود وتقاليدهم الخاطئة الفاسدة، إلى الربا كعادة سيئة من تلك العادات، إذ يقول تعالى:\”وأخذهم الربا وقد نهوا عنه\” 161/النساء.

3/يشير في الآية 130/آل عمران، المذكورة أعلاه، إلى التحريم الصريح للربا، لكنه تحريم لنوع واحد من الربا، وهو النوع الشديد والفاحش منه فقط.

4/يعلن عن التحريم الشامل والشديد لجميع أنواع الربا، واعتباره بمنزلة إعلان حرب على الله سبحانه وتعالى، يقول تعالى:\”يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وان تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون\” 278، 279/البقرة.

وقد اعتبر احد المفسرين الربا من اكبر الأخطار الموجة لوحدة الأمة، ومثاليتها الرسالية، وهو ثغرة اقتصادية كبيرة، وقال:إن الربا أو الفائدة على المال التي تتضاعف بصورة تلقائية، كلما ازدادت السنين، أدت إلى ازدياد الفقير مسكنة، والغني شبعا وجشعا، إن الربا قد يبدأ بذرة صغيرة لكنه ينمو في نفس الغني حتى يصبح شجرة خبيثة للجشع، وينمو في نفس الفقير حتى يصبح جدارا ضخما من الكراهية.

من هنا فلا غرابة للأحاديث والرواية التي تعد الربا من أشنع الأعمال وترى أثره اخطر من الزنى، إذ الزنى قد لا تتجاوز آثاره الفاعلين له، بينما الربا يهدد أركان المجتمع بالتزلزل.

وقد وردت عدة أحاديث وروايات تكشف علة تحريم الربا، وهي ما تلقي الضوء على الخلفية النفسية والاجتماعية للشخصية المرابية مما يؤدي بها إلى الفشل والسقوط. فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام انه قال:\”وعلة تحريم الربا لما نهى الله عز وجل عنه ولما فيه من فساد الأموال لأن الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهما وثمن الآخر باطلا، فبيع الربا وشراؤه وكس على كل حال على المشتري وعلى البائع، فحرم الله عز وجل على العباد الربا لعلة فساد الأموال، كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوف من فساده حتى يؤنس منه رشد، فلهذه العلة حرم الله عز وجل الربا…\”

وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام انه قال:\”انه لو كان الربا حلالا لترك الناس التجارات وما يحتاجون إليه، وحرم الله الربا لتنفر الناس من الحرام إلى الحلال والى التجارات من البيع والشراء فيبقى ذلك بينهم في القرض\”. وهذا يعني أن المرابين يمثلون النخبة التي تعيش على أتعاب الآخرين في المجتمع الإنساني،فيكونون مصداقا للحديث النبوي:\”ملعون من ألقى كله على الناس\”.

والربا أيضا من مصاديق الظلم كما في الآية 279 من سورة البقرة \”لا تظلمون ولا تظلمون\”، والظلم كما اتضح لنا في حلقات ماضية من عوامل الفشل والسقوط، وهذا يعني أن التعامل بالربا سيدفع صاحبه والمجتمع الذي ينمو فيه إلى قاع الفشل.

إن المعاملات الربوية أحد عوامل تقوية وترسيخ النظام الطبقي في المجتمع، لأن أفرادا معدودين يمتلكون كل شيء بسبب الربا، بينما الأكثرية الساحقة في فقر مدقع، ومع مرور الأيام تزداد الطبقة الأولى غنى بينما الثانية فقرا، كما الطائفة الأولى تقل بينما الثانية تزداد ما يعني انهيار المجتمع بشكل كامل، ولاشك أن ذلك لا يتفق أبدا مع نوعية النجاح الذين يرسمه القرآن الكريم، إذ يريد نجاحا للمجتمع كله وليس لمجموعة من الأفراد.

وقد أشارت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن الربا يحطم الأواصر الإنسانية في المجتمع، فقد ورد عن سماعة انه سأل أبي عبد الله الصادق عليه السلام:\”إني قد رأيت الله تعالى ذكر الربا في غير آية وكرره؟ قال عليه السلام:أو تدري لماذا؟ قلت:لا، قال:لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف\”

وعن الصادق عليه السلام أيضا انه قال:\”إنما حرم الله عز وجل الربا لكيلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف\”.

ومن هنا يتضح معنى ومغزى تأكيد الإسلام على حرمة الربا بتلك العبارات الشديدة والمذهلة في الآيات والأحاديث والروايات، ونعي من ذلك أن الإسلام يريد إحاطة المسائل الاقتصادية في بوتقة العواطف الإنسانية والأخلاقية، فان الربا والمعاملات الربوية تهدم أصول الأخلاق، وتجتث جذور العواطف الإنسانية، وتعرقل جميع أعمال الخير في المجتمعات البشرية.

إن الربا يصنع طريقة تفكير منحرفة لدى الفرد ويبني علاقات اجتماعية متوترة، فالمرابي يصبح انتهازيا بصورة تلقائية لا شعورية، وازدياد طبقة المرابين يجعل من الانتهازية حالة طبيعية بينما هي حالة مرضية، تتنافى وملامح الشخصية السوية، كما أن الرد الطبيعي من قبل المتضررين من المعاملات الربوية، سيكون تعاظم روح الانتقام، وهكذا تسود المجتمع الأمراض النفسية من المرابي والمتضرر من الربا، ومثل هذا المجتمع لا يمكن له أن يصنع نجاحا.

البصيرة القرآنية التي نستفيدها في طريق النجاح، أن الإنسان مدعو لتنمية ماله، أو خبرته، واختصاصه، كطبيب أو مهندس أو خطيب، أو أي مهنة في الحياة، مع التزام التقوى في هذه التنمية، باجتناب استغلال ظروف الناس ليفرض عليهم زيادة غير طبيعية ومنطقية، تزيده ثراء، وتزيدهم بؤسا.

إن النجاح الحقيقي هو ما يساهم في تنمية المجتمع، ويرفع من معدلات التحضر والتقدم للجميع، ويقلل من مظاهر التخلف والفقر.

هل سمعتم بقصة دانيال النبي (ع) حين كان صغيرا؟

,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *