إضاءات قرآنية في طريق النجاح (18) – النجاح النزيه


النجاح كأي رغبة أخرى عند الإنسان، يمكن له أن يصل إليها عبر قنواتها المشروعة، لكنه بالتأكيد لن يتمكن من ذلك دون بذل جهد ومعاناة، وسيرى وهو في هذا الطريق أن آخرين استطاعوا الوصول للنجاح ببذل جهد اقل بكثير مما يقوم به، فيبدأ لا شعوره بتغيير خطته للوصول إلى النجاح، فيفكر في كيفية تخطي القنوات الطبيعية كما صنع الآخرون.

ربما لم يحتج الآخرون إلى أكثر من واسطة ليقفزوا مباشرة من مستوى وظيفي متدن إلى موقع قيادي متقدم، وهذه الواسطة لم يتوفروا عليها إلا عبر مجاملات وعلاقات وقضاء حاجات لا علاقة لها من بعيد وقريب بالعمل الوظيفي، وهكذا يلح لا شعور الساعي إلى النجاح، لحرف خطته عن مواصلة دروب النجاح الطبيعية ليتمحل أي طريق قصير يوصله إلى المراكز المتقدمة في اقصر وقت واقل جهد، تماما كما وصل آخرون، ويروج إلى ذلك الكثير من الناس.

ألا نسمع في كل يوم مفردات هذه الثقافة تنتشر هنا وهناك، وألا توجد بعض الأمثال في ثقافتنا الشعبية ما ترسخ هذه البضاعة اللامسئولة، كالقول\”وش لك بالبحر وأهواله ورزق الله على السيف\”..هذه الثقافة التي تعوق وتشوش لا شعور المجدين الطامحين للنجاح،فتراهم بعد انطلاقة جادة لنجاح حقيقي ينكفئون،وبدل أن يستثمروا ما منحهم الله سبحانه وتعالى من طاقة عقلية وروحية وحيوية نفسية كبيرة لاقتحام عقبات النجاح الطبيعية،وفتح أفاق جديدة في مضامير تفوقهم،تراهم يوظفون هذه النعمة الكبيرة،في ابتكار أساليب المجاملات والقفز على القنوات الطبيعية في التطور.

وكم هي النتيجة كارثية على أي مجتمع حين يتسابق مجدوه والناشطون فيه للوصول إلى المواقع المتقدمة، بطريقة القفز على القنوات المشروعة.

من هنا نجد البصيرة القرآنية تسعفنا من الوقوع في هاوية هذه المأساة الفردية والمجتمعية والحضارية، وترش النور في دروب الناجحين، لتضيء حياتهم بعبق الاستثمار الجميل لكل ذرة عرق وساعة تعب ومعاناة جهد بذلوه في سبيل النجاح.

يقول تعالى:\”قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون\” 100/المائدة.

قال في مجمع البيان الخبيث أصله ألردي مأخوذ من خبث الحديد وهو رديه بعد ما يخلص بالنار جيده، ففي الحديد امتزاج جيد بردي، وفي تقريب القرآن الخبيث الحرام والطيب الحلال، وفي الميزان أن الآية مثل مضروب لبيان أن قواعد الدين ركبت على أساس صفات تكوينية في الأشياء من طيب أو خباثة مؤثرة في سبيل السعادة والشقاوة الإنسانيتين، ولا يؤثر فيها قلة ولا كثرة.. وحسب الأمثل فان الخبيث والطيب ـ في ـ الآية يشمل كل ما يرتبط بالإنسان، طعاما كان ذلك أم فكرا، وفي (من هدى القرآن)الناس فريقان طيب وخبيث، وبينهما مسافة بعيدة وعلى المرأ أن يختار لنفسه أحد الفريقين، لكن ليعرف مسبقا أن الفريق الطيب هو الأفضل على رغم قلة أبنائه. وان القلة ـ حسب من وحي القرآن ـ قد تغلب الكثرة إذا كانت الخصائص الذاتية للقلة أقوى من الحجم العددي للكثرة، والقرآن أراد للإنسان أن ينطلق للنظرة للأشياء من جانب الكيف والنوع وليس الكم، لأن الكثرة لا تعبر عن طبيعة الشيء في ذاته، بل هي تعبير عن حجمه.

وفي تفسير الألوسي:(\”لا يستوي الخبيث والطيب\”أي الرديء والجيد من كل شيء، فهو حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين النوعين والتحذير من رديها، وان كان سبب النزول أن المسلمين أرادوا أن يوقعوا بحجاج اليمامة وكان معهم تجارة عظيمة فنهوا عن ذلك.. وقيل نزلت في رجل سأل رسول الله (ص) فقال:يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي واني جمعت من بيعها مالا فهل ينفعني من ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله تعالى، فقال النبي(ص):\”إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل جناح بعوضة إن الله تعالى لا يقبل إلا الطيب\”).

وعليه فان القرآن الكريم يريد لأتباعه أن يسلكوا الطرق الطبيعية والمشروعة في الوصول إلى النجاح وان يتحلوا بالنزاهة في ذلك، دونما تأثر ببهرجة الطرق الملتوية، وصخب المروجين لها، ولعل القرآن الكريم في هذه الآيةاراد لنا أن نترفع عن الانبهار بضجيج الدعائيين، وأن نذهب وراء الحقائق لا الأوهام. ويمكن لنا أن نفهم من توجيه الخطاب القرآني لأولي الألباب وهم أصحاب العقول الناضجة في المجتمع، أن الخبراء في المجتمع مسئولون عن توجيه الطالعين من الناجحين في الأجيال المتلاحقة، إلى الحقول الأكثر أهمية للمجتمع، لأن النجاح الأهم هو نجاح المجتمع كله.

,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *