إضاءات قرآنية في طريق النجاح (19) – عظة تاريخية للنجاح


حين يأتي الأنبياء إلى أي مجتمع من المجتمعات فانهم يستهدفون أمرين، الأول دعوة الناس إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، والتزام حدوده في علاقاتهم المختلفة، والثاني استثمار الإمكانيات التي يتوفر عليها هذا المجتمع لدفع الحياة الحضرية عنده نحو التطور والارتقاء.والجامع بين الأمرين هو الدعوة للنجاح في الدنيا والفوز في الآخرة، وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم بلفظة الفلاح، وقد سبق أن أوضحت في مقالة ماضية أن لفظة الفلاح تجمع بين النجاح في الدنيا والفوز في الآخرة.

وهنا نتوقف مع القرآن الكريم أمام مثال لأحد المجتمعات البشرية التي جاءها أحد الأنبياء، وعرض رسالته عليهم وكيف تفاعل هذا المجتمع معه وما آل إليه مصيرهم، ثم نتوقف لأخذ العظة، من هذا الدرس القرآني البليغ في النجاح.

عاد قوم من العرب كانوا يسكنون الأحقاف من شبه الجزيرة العربية، وقد توفروا على أجساد طويلة كالنخل، وكانوا أولي قوة وبطش وكانت بلادهم عامرة وأراضيهم خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم، وقد عبر عنهم القرآن الكريم إضافة إلى ذلك بقوله تعالى \”التي لم يخلق مثلها في البلاد\”. لكن الوثنية كانت تعشعش فيهم، وبنوا بكل ريع آية يعبثون، واتخذوا مصانع لعلهم يخلدون وتفشى فيهم الاستبداد والتجبر والطغيان، فبعث الله إليهم رجلا منهم وهو هود، يدعوهم إلى عبادة الله سبحانه والتزام التقوى، واستثمار ما منحهم الله من نعم ليطوروا حضارتهم، لكنهم لم يأخذوا بأسباب النجاح التي أرشدهم إليها، فكانت عاقبتهم زوال حضارتهم واندثارها، وانقلابهم إلى مصير مؤلم في الآخرة.

يقول تعالى:\”والى عاد أخاهم هود قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره أفلا تتقونقال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبينقال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمينأبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمينأو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون*\” 65ـ69/الأعراف.

لقد ذكر هود قومه بأهم ما توفروا عليه من نعم يمكنهم الانطلاق منها لبناء حضارة رائدة، فهم قد خلفوا قوم نوح الذين أتى عليهم الطوفان، وقد قال بعض المفسرين أن بينهم ونوح سبعة أجيال، كما انهم يتمتعون بقوة جسدية فائقة، وقد قيل عن ابن عباس:كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا، إضافة إلى نعم الله الأخرى التي من عليهم بها. وهي الآلاء التي ذكرهم بها.لكنهم لم يعيروه اهتماما ففشلوا فشلا ذريعا، ومحيت حضارتهم من وجه الأرض.

لكنا اليوم نستفيد من إضاءات هود عليه السلام لطريق النجاح، وذلك بأن نضع نصب أعيننا كمجتمعات وأفراد، ما نتوفر عليه من إمكانيات منحنا الله سبحانه وتعالى إياها وننطلق منها لشق آفاق النجاح.

إن كثيرا من الناس إنما يفشلون في حياتهم، لأنهم لم يكتشفوا المواهب الخاصة التي يتوفرون عليها، أو بسبب اندفاعهم إلى نجاحات رأوا غيرهم نجح فيها، لكنهم لم يكونوا يتوفرون على إمكانياتها، فكم من خطيب لم ينجح في خطابته لأن الله سبحانه منحه إمكانيات الكاتب اكثر من الخطيب، وكم من محام لم يحقق شيئا لانه توفر على إمكانيات العالم وليس المحامي، وكم طبيب وجد نفسه في التجارة اكثر من الطب بعد ما قضى شطرا طويلا من حياته في مجال الطبابة دراسة وعملا.

يقول علم البرمجة اللغوية العصبية إننا كبشر نختلف من حيث نماذج التفكير البصرية والسمعية واللمسية، وهي ما نطلق عليها النظم التعبيرية، وعلى رغم أننا جميعا نمتلك نفس الحواس، إلا أن كلا منا يعبر بطريقة فريدة. إن أنظمتنا التعبيرية تعمل طبقا للغتنا الخاصة. وهذه اللغة تحتوي على كل عملياتنا العقلية(التفكير والتذكر والتخيل والإدراك والشعور).وبالتأكيد فان تعرفك ـ ولو بصورة مبسطة ـ على هذه الأنظمة وخصائصها سيسمح لك بأن تتحكم في عقلك بصورة افضل ومن ثم ستبدأ في التحكم في مشاعرك وأحاسيسك وبعدها سلوكياتك، وهو الأمر الذي سيدفعك باتجاه النجاح.

وكمجتمع ليس بالضرورة أن تفوقنا في الحياة، يعتمد على منافسة الآخرين فيما أبدعوا وتفوقوا فيه، بل قد نستطيع اكتشاف خصائص الآلاء التي اسبغها الله سبحانه وتعالى علينا، ومن ثم الانطلاق منها لتقديم تميز نتفوق به في سوق المنافسة الحضارية المعاصرة.

,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *