إضاءات قرآنية في طريق النجاح (24) – التزود الروحي للنجاح


الإنسان مخلوق ذو بعدين، روحي وجسدي، والنجاح حصيلة التفاعل الداخلي بين هذين البعدين، وتماما كما أن النجاح يتطلب قدرات جسدية تتناسب والمجال الذي يرغب الإنسان النجاح فيه، كذلك هو بحاجة إلى شحن روحي يجعل التطلع والتخيل الإبتكاري في أقصى مراحله، ويزود الإنسان بالطاقة الحيوية لمواصلة الصعود في سبل النجاح.

وكما أن الجسد بحاجة يومية إلى التغذية للمحافظة على فاعلياته المختلفة، من حركة وقيام وقعود وقبض وبسط وما شابه ذلك، كذلك الأمر بالنسبة للروح فهو بحاجة إلى تغذية يومية بما يجعله متوقدا ومتألقا أمام مصاعب الحياة، لكن غذاء الروح يختلف عن غذاء الجسد، لاختلاف طبيعة الانتماء لكل واحد منهما، فالجسد ينتمي إلى الأرض، وغذاؤه من عطائها، أما الروح فانه ينتمي إلى السماء، وعليه فان غذاءه لا يمكن إلا أن يكون من فيوضاتها.

غذاء الروح يكمن في الوحي السماوي وما يربط المرء بالاتصال بالله سبحانه وتعالى، من صلاة ودعاء واستغفار وقيام ليل وذكر لله سبحانه وتعالى، بأي طريقة من الطرق، كتلاوة القرآن الكريم، أو الذكر القلبي، الذي يجعل المرء لا يرى شيئا إلا ويرى الله سبحانه وتعالى معه وقبله وبعده، ويحيط بكل أبعاده.

وان عدم التزود بالوقود الروحي لا يقل خطورة على عملية النجاح عن عدم التزود الجسدي، بل يزيد عليه، لما للروح من تأثير كبير على عقل الإنسان وفكره واندفاعه وتطلعه في الحياة. ولذلك جاء في البصيرة القرآنية التأكيد على أولوية التزود الروحي للنجاح.

هذه الإضاءة هي ما نجدها مع آخر آية في القرآن الكريم، تتحدث عن الذين يتوقع لهم النجاح في الحياة، وقد فصلنا القول عن إحدى عشر آية قبلها في المقالات الماضية، تصب في ذات المسار، والآية الحالية هي الآية العاشرة من سورة الجمعة، لكن الفهم الأعمق لبصيرة النجاح في هذه الآية المباركة يتطلب قراءتها ضمن السياق الذي وردت فيه.

يقول تعالى:\”يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمونفإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحونوإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين\” 9 ـ 11/الجمعة.

يرى المفسرون من هذه الآيات وجوب صلاة الجمعة، وضرورة المسارعة إليها، وترك أي عمل من أجل إقامتها بدل صلاة الظهر من يوم الجمعة، وقد أبدلت الركعتان الأوليان من صلاة الظهر بخطبتين ينشؤهما الإمام يؤكد فيهما على ضرورة ملازمة التقوى، التي تعني الانضباط في شتى مناحي الحياة، ويذكر المصلين بما يتصل بشأنهم الاجتماعي ويحفزهم على النجاح في الدنيا والفوز في الآخرة.

وكان من شدة اهتمام الرعيل الأول من المسلمين بصلاة الجمعة، أنهم إذا أذن المؤذن يوم الجمعة نادى مناد حرم البيع حرم البيع، وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام انه قال:\”والله لقد بلغني أن أصحاب النبي (ص) كانوا يتجهزون للجمعة يوم الخميس\”

وقد علق احد المفسرين على قوله تعالى:\”ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون\” قال، لأن النتائج الروحية والعملية التي تحصلون عليها من خلال هذه الصلاة العبادية الثقافية المنفتحة على الجانب الاجتماعي والسياسي لا تقدر بثمن، بحيث لا قيمة لما يربحه الإنسان من الأعمال الأخرى التي ينشغل بها عن الصلاة، أمام الربح المعنوي والمادي الذي يحصل عليه في الحاضر والمستقبل من خلال النتائج الواقعية للصلاة على أكثر من صعيد.

وقال بعض المفسرين\”فإذا قضيت الصلاة\” أي أديت صلاة الجمعة، “فانتشروا\” أي تفرقوا أيها المؤمنون، \”في الأرض\”بأن يذهب كل إنسان إلى عمله الموجب للانتشار والتفرق، “وابتغوا\” أي اطلبوا بالكسب وما أشبه \”من فضل الله\” أي رزقه ولطفه، وبالطبع فان التزود الروحي من الصلاة ثم الانتشار والبحث المتكرر كل أسبوع عن فرص النجاح كل ذلك سيؤدي حتما إلى التوثب على فرص النجاح، والتقدم في خط التفوق.

أورد المفسرون الشيعة في ذيل تفسير هذه الآية رواية عن الإمام الصادق (ع) فيما رواه عنه عمر بن يزيد، قال (ع):(إني لأركب في الحاجة التي كفاها الله، ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله أضحى في طلب الحلال، أما تسمع قول الله عز اسمه:\”فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله\” أرأيت لو أن رجلا دخل بيتا وطين عليه بابه، ثم قال:رزقي ينزل علي أكان يكون هذا؟! أما انه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم. قال:قلت:من هؤلاء؟ قال:رجل يكون عنه المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأن عصمتها بيده لو شاء أن يخلي سبيلها، والرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد عليه فيجحده حقه فيدعو عليه فلا يستجاب له، لأنه ترك ما أمر به، والرجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته فلا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس حتى ياكله ثم يدعو فلا يستجاب له).

,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *