إضاءات قرآنية في طريق النجاح (29) – كتاب الناجحين


هنالك علاقة وطيدة بين النجاح والمعرفة، وبقدر ما تتوسع معرفة الإنسان بقدر ما تتفتح له آفاق في النجاح، وبذات القدر تتعزز قدراته ومهاراته للإنجاز في المجالات التي يهتم بها، وليس من الصدفة اليوم أن نرى الدول المتقدمة، تنفق على مجالات العلم والمعرفة أضعاف ما تنفقه الدول الأخرى، وليس من الغريب أيضا أن يكون التحدي العلمي والمعرفي هو اكبر التحديات التي تواجه الأمم في طريقها نحو التحضر والرقي.

وللدور الخطير للمعرفة في طريق النجاح، نرى أن الوحي السماوي، بدأ مع النبي (ص) بتحريضه على القراءة لما تمثله من حجر الزاوية في العملية المعرفية، فقد نزل عليه جبرائيل قائلا له: اقرأ..ومن تلك اللحظة بدأت تتأسس أكبر وأطول حضارة تعرفت عليها البشرية، ولا تزال فاعلة حتى اللحظة الراهنة رغم ما تمر به من منافسة حضارية، جعلتها في مؤخرة الركب، لكنها يمكن لها أن تنهض من جديد وربما بأقوى اندفاعة من السابق.
المعرفة إذن عامل ضروري للنجاح، والوعي بقيمة النجاح لا يمكن أن يقوم أصلا، إلا بوجود عقلية متفتحة للمعرفة، ولطالما تغنى الشعراء بالعلم، وقالوا فيه مدحا ما لم يقال في العظماء:العلم يعلي بيوتا لا عماد لها..
وقد قيل أن استفتاء شمل عشرات الناجحين في مختلف الحقول حلت المعرفة في حقل الاختصاص بالمرتبة الثانية، بعد الإدراك الصائب للأمور، كصفة أكثر شيوعا بين أفراد العينة المختارة، فقد منح ثلاثة أرباع المستجوبين أنفسهم درجة بارزة في هذه الميزة، ويعتقد الباحثون أن اختيار الإنسان للمجال الذي يريد النجاح فيه وإلالمام به من أهم الأشياء التي تؤهله للنجاح..فلا شيء يخدم النجاح قدر معرفة كل شيء عن المهنة التي تنوي أن تتخذها.هذا على صعيد النجاح في مجال المهنة التي يريدها الإنسان.
أما النجاح في صعيد الحياة كلها، ثم الانتقال بذلك للفوز في الآخرة، كما هو النجاح الذي أراده الإسلام لأتباعه، حيث أن الفلاح الذي يدعو إليه في كل نداء للصلاة، هو النجاح في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة، فانه يحتاج إلى معرفة وعلم يتجاوز العلم التفصيلي ويعطي بصيرة وفلسفة للحياة في الدارين، فأين يمكن للإنسان أن يتوفر على هذه البصيرة والعلم؟!

انه القرآن الكريم، المرجعية الجامعة المانعة، التي تعطي الناس معرفة وبصيرة وهداية تضيء لهم حياتهم الدنيا فتمنحهم فرص استثمار هذه الحياة للنجاح في كافة مضاميرها، ثم الانقلاب إلى جنة عرضها السماوات والأرض في الآخرة.
وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم، لكن القليل من الناس من ينفتح على هذا الكتاب العظيم، فيغترف منه المعرفة لنجاحه في الدنيا والآخرة، يقول تعالى:\”شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان\”.
لكنه يؤكد في بدايات سورة البقرة، أن الذين يستثمرون بصائر القرآن الكريم للنجاح، هم المتقون الناجحون فقط، وهم بذلك يتصاعدون في النجاح يوما بعد يوم، يقول تعالى:\”ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين\”..إلى أن يقول عنهم: \”أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون\”.

فما الذي نجده في هذا الكتاب حتى أصبح كتابا للناجحين؟!
باختصار نقول أن في القرآن الكريم كل ما يدعم ثقافة النجاح، وباستخدام مختلف الأساليب يسعى كتاب الله سبحانه وتعالى لتركيز ثقافة النجاح بداخل النفوس، فهو يقدم النماذج الناجحة والفاشلة في تاريخ البشرية بأسلوب قصصي جميل، لأفراد وأقوام وحضارات، ويقدم الأمثلة التي تعزز النجاح وتحطم أغلال الفشل، ويعطي البصائر القاطعة في أوامر ونواهي، ينجح من التزم بها ويسقط من تخلف عنها، ولا يتردد من استخدام لغة الزجر والترهيب لعلها تساهم في إيقاظ الإنسان من غفلته.
وهذا ما نجده ملخصا في الحديث النبوي الشريف، الذي نقل مرسلا عن الإمام علي بن أبي طالب(ع)، قال فيه رسول الله(ص):\”أنزل القرآن على سبعة أقسام، كل منها شاف كاف. وهي:أمر، وزجر، وترغيب، وترهيب، وجدل، ومثل، وقصص..\” ومثله ذكر عن أبي قلابة، كما في القراءات العشر لابن ألجزري، وقريبا منه نقل عن ابن مسعود كما في تفسير الطبري.

كنت أتصفح سير بعض الناجحين البحرينيين، واستغربت لسيرة هذا الرجل، الذي خلف أسرة اقتصادية ضخمة في تاريخ البحرين، لا يزال دورها الاقتصادي كبيرا إلى اليوم، استغربت لروح التحدي التي يمتلكها هذا الرجل الذي توفي في العام 1945م. وقد بدأ حياته الاقتصادية بإعمال بسيطة جدا، دكان صغير لبيع المواد الغذائية، ثم اخذ يشق آفاق النجاح في أعمال تجارية ضخمة على مستوى الخليج، فقد قام باستئجار مركب لاستيراد البضائع من الهند، ثم استأجر السفن للعمل دوليا، ولأجل ذلك أصر على إتقان اللغة الإنجليزية، وأقام علاقات اقتصادية مع رجال الأعمال الذين كانوا يتوقفون في البحرين، من الألمان والبلجيكيين والأمريكيين والهنود وغيرهم، واخذ يسافر كثيرا لتوطيد هذه العلاقات، وأصبح بذلك وكيلا لعدة شركات، وعمل في مجال الغذاء والسفر والنفط والبناء والإنشاءات، ونقل عنه انه أول من امتلك سيارة في البحرين وقد مر بعدة مصاعب في حياته التجارية، اضطرته في بعضها لرهن جميع ممتلكات بحيث يصبح وضعه المالي تحي الصفر، ثم ينهض من جديد ويتوسع في مشاريعه، وقد عرف عنه بوقوفه مع الناس في سنوات المحنة إبان الحروب العالمية، ومع انه حرم من الولد، إلا انه ربى ابني أخيه اليتيمين ليصبحا من كبار رجال الأعمال على مستوى الخليج.
انه الحاج يوسف بن أحمد كانو، الذي حفظ القرآن الكريم في الثامنة من عمره، فكانت ثقافة النجاح القرآنية البصيرة القابعة في لا شعوره، والتي تدفعه للنجاح في كل مجال وتلهمه بروح التحدي مهما كانت الصعاب.

,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *