إضاءات قرآنية في طريق النجاح (8) – لا ينجح مجرم


النجاح نتيجة تراكمية لجهد مخلص ودؤب يقوم به المرء حتى يصل به إلى الظفر بما يطمح إليه، وتتباين الفترة الزمنية للوصول إلى هذه النتيجة، إذ العملية بحاجة إلى تضافر عدة عوامل وشروط لتعلن النتيجة النهائية بتتويج المرء على منصة النجاح.

ورغم أن أغلب الناس يدركون بشكل واضح أن لا أحد ينجح في الحياة إلا بهذه المقدمات الطبيعية، إلا أن هنالك بعضا من الناس لا يرون إلا لحظة التتويج، ويمسحون من إدراكهم تلك المقدمات الضرورية التي بها الكثير من المعاناة، وربما محطات الفشل المتكررة، هؤلاء الناس يفكرون بهذه الطريقة: يقولون كما أن هذا الناجح استطاع أن يصل إلى هذا الموقع المرموق اذا أنا باستطاعتي أن أصل أيضا، وهو كلام صحيح، لكنهم ولأنهم لا ينظرون إلا إلى النتيجة فقط من دون أخذ المقدمات بعين الاعتبار، لا يبذلون الجهد الذي بذله الآخرون، فيصطدمون أمام متطلبات النجاح، فيقررون القفز على هذه المتطلبات، والتوثب على مقعد الناجين وأن أدى ذلك إلى ارتكاب جريمة بحق الآخرين.

فهل يمكن للمجرم حقا أن يحقق من النجاح ما حققه الجادون المجتهدون؟!

قد يبدو للبعض في الوهلة ألأولى أن المجرمين قادرون على ذلك، وتنتشر مجموعة من الرموز الثقافية في بعض المجتمعات التي تروج للقفز على المقدمات الضرورية للنجاح، كالمثل القائل \”إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب\” و \”تغذى بهم قبل أن يتعشوا بك\” إلى غير ذلك، وهي رموز ثقافية لمجتمع يشرعن الجريمة ويطبعها.

لكن البصيرة القرآنية تقول لنا أن المجرمين لا نصيب لهم من النجاح، فالحياة قائمة على الجد والكفاح، وليس انتزاع النجاح بقوة الذراع والغلبة.يقول تعالى:\”إنه لا يفلح المجرمون\” 17/ يونس.

أورد ابن كثير في تفسيره لهذه الآية، مثلا للمجرمين الذين أرادوا التوسل بالكذب على الله لتكون لهم المكانة والحضوة في المجتمع، وهو مسيلمة الكذاب، إذ أن هذا الأخير لما رأى النجاح الباهر للنبي محمد (ص) وانتشار الإسلام في شتى أرجاء الجزيرة العربية، أراد أن يكون له مثل ما للنبي (ص) في الناس، ولكن ـ وكما يقول ابن كثير ـ (الفرق بين محمد (ص) وبين مسيلمة لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل) ثم يأتي ببعض الأمثلة من الفرق بين ما نزل في القرآن الكريم وخرافات مسيلمة الكذاب، يقول: (كم من فرق بين قول الله تعالى: \”الله لا اله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم….\” وبين قول مسيلمة قبحه الله: يا ضفدع بنت ضفدعين نقي كما تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين. وقوله قبحه الله: لقد أنعم الله على الحبلى اذا أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشى. وقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل له خرطوم طويل، وقوله: العاجنات عجنا والخابزات خبزا و اللاقمات لقما إهالة وسمنا إن قريشا قوم يعتدون، إلى غير ذلك).

والحق أن مسيلمة نموذج للذين يريدون القفز على الشروط الضرورية للنجاح، والقرآن الكريم يضع بين أيدينا هذه الإضاءة: \”أن الإجرام لا يؤدي إلى النجاح أبدا\” وحتى إن بدا لنا في بادئ الأمر أن المتوسل بالإجرام ناجح فسرعان ما يتحول هذا النجاح إلى فشل ذريع.

أتذكر قصة حدثت في حياة هارون الرشيد، فقد كان من عادته أن يقيم مأدبة غذاء لقواد جيشه، وفي إحدى المرات، رأى احد قواده يضحك بشكل هستيري بين الجموع، وحين سئل عن ذلك قال لموقف تذكرته، فأصر عليه الحضور بأن يذكره لهم، لكنه أبى، فطلب منه الرشيد ذلك، فاعترف أنه قبل عشر سنين جرد تاجرا من أمواله وصادر بضاعته ولم يكن احد معهما في الطريق، فلما أراد أن يقتل التاجر لكيلا يقاضيه، طلب التاجر منه أن ينتظر حتى يستشهد عليه أحدا، وفي الأثناء رأى التاجر طير القطا في الجو، فقال يا طير القطا اشهدي على هذا الرجل فقد قتلني ظلما وسلبني ما أملك، أليس غريبا ـ والكلام للقاتل ـ أن يستشهد علي طيرا كهذا الذي نأكله اليوم.

فلم يرى الرشيد بدا من تحويله العاجل للقضاء الذي حكم عليه بالموت فورا. وهذه عاقبة المجرمين.

,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *