الإختلاف بين الحقيقة والواقع


حاضرة ألقيت بتاريخ 16/3/1995م في المنتدى الثقافي العراقي في الدنمارك.

‘,’
المقدمة

هنالك جملة من المواضيع نحن بحاجة لمناقشتها، والتوصل الى حل فيها، حتى لا تضيع جهودنا أدراج الرياح، ونبقى اسراء لحالات من التخلف والضياع، ونجهل المصير الذي نسير نحوه. ومن ابرز هذه المواضيع موضوع الاختلاف.
ترى.. هل الاختلاف مقبول أم مرفوض ؟
هل هو حقيقة لا يمكن تجاوزها، أم هو واقع يكبلنا ولا يمكننا الفكاك منه؟
ان الاختلاف حقيقة وواقع، لكن واقعه أخفى حقيقته، وتضخم على حجمه الحقيقي، فاصبح كالأخطبوط المتمدد في كل مكان، يصنع التمزق هنا وهناك، ويخلق واقعا من التخلف والهزيمة و التشرذم يصعب الخروج منه هناك، فاصبح الاختلاف بحقيقته و واقعه أمرا ممقوتا يبعث على التقزز والتشاؤم.
مع أننا نعرف ان الاختلاف ضرورة إنسانية، تثري التنوع و الإبداع في حياة البشر.
فما هي حقيقة الاختلاف،و أين الخطأ في الواقع اليومي للاختلاف في حياتنا ؟
دعونا نتأمل في بعض آيات الذكر الحكيم، وما يقوله العلم عن حقيقة الاختلاف لنتعرف عليها أولا، ثم نعرج على الواقع اليومي للاختلاف، لنرى الفارق بين الحقيقة والواقع.

أولا:الاختلاف في بصيرة القرآن الكريم
لعلنا نستوحي من بعض الآيات الكريمة في القرآن الحكيم، حقيقة وجود الاختلاف والتفاوت بين أبناء البشر حسبما شاءت إرادة الله عز وجل وحكمته.
يقول تعالى: \”ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون مالهم من ولي ولا نصير\” سورة الشورى/8
\”وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون\” سورة يونس/19
\”و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم\” سورة هود/118
وتوضيحا لهذه الحقيقة يقول العلامة الطباطبائي في تفسير هل للآية الأخيرة :
\”الاختلاف ويقابله الاتفاق من الأمور التي لا يرتضيها العقل السليم، لما فيه من تشتيت القوة وتضعيفها. وآثار أخرى غير محدودة، من نزاع ومشاجرة وجدال وقتال وشقاق، كل ذلك يذهب بالأمن والسلام، غير أن نوعا منه لا مناص منه في العالم الإنساني وهو الاختلاف من حيث الطبائع المنتهية الى اختلاف البنى فان التركيبات البدنية مختلفة في الأفراد وهو يؤدي الى اختلاف الاستعدادات البدنية والروحية، و بانضمام اختلاف الأجواء والظروف الى ذلك، يظهر اختلاف السلائق والسنن و الآداب والمقاصد، والأعمال النوعية و الشخصية في المجتمعات الإنسانية، وقد أوضحت الأبحاث الاجتماعية انه لولا ذلك لم يعش المجتمع الإنساني طرفة عين.
وقد ذكره الله تعالى في كتابه ونسبه الى نفسه حيث قال:
\”نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا\” الزخرف/22. ولم يذمه تعالى في شيء من كلامه إلا اذا صحب هوى النفس وخالف هدى العقل ) الميزان في تفسير القرآن للطباطبائي ج11ص60 .
ويقول المفسرون في قوله تعالى:
\”كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم \” البقرة/213
هذه الآية تتحدث في الواقع عن مراحل حياة البشرية التي تنتهي بمرحلة بعث الرسل و نزول الأحكام الإلهية.

المرحلة الأولى: مرحلة حياة الإنسان الابتدائية حيث لم يكن الإنسان قد ألف الحياة الاجتماعية، ولم تبرز في حياته التناقضات والاختلافات وكان يعبد الله استجابة لنداء الفطرة ويؤدي له فرائضه البسيطة.
في المرحلة الثانية: اتخذت حياة الإنسان شكلا اجتماعيا، ولا بد أن يحدث ذلك، لأنه مفطور على التكامل، و تكامله يتحقق في خضم الحياة الاجتماعية .
و بسبب نشوء هذه الحياة الاجتماعية تأتي المرحلة الثالثة: وهي مرحلة التناقضات و الاصطدامات الحتمية في المجتمع البشري، وتنشب الاختلافات ويبرز الإحساس بالحاجة الى تعاليم الأنبياء.
وفي المرحلة الرابعة: يبعث الله الأنبياء لانقاد الإنسان، فيمهدون الأفكار والقلوب لرسالتهم عن طريق التبشير و الإنذار، وحين ينضوي الكائن البشري تحت مؤثرات التبشير و الإنذار بدافع حب الذات ويحس ان مصيره مرتبط مباشرة بتعاليم الأنبياء، تنزل الكتب السماوية و الأحكام والقوانين الإلهية لتحل التناقضات والنزاعات المتنوعة (الاختلافات الفكرية والعقائدية والاجتماعية و الأخلاقية ).

يقول تعالى:
\”وما اختلف فيه الاالذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم\”
هذه الفقرة من الآية تتعرض لمرحلة تلي نزول تعاليم الأنبياء، وهي توضح ان ثمة فرقا بين اختلافات ما بعد نزول الرسالة واختلافات ما قبلها. فتلك سببها الجهل، وهو قد زال ببعثة الأنبياء، وهذه سببه البغي أي الظلم والعناد و أمثالها من النزعات التي أدت الى الاختلافات بعد ان تبين لاصحابها كل شيء. \”من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم \” الأمثل /ج2/ص44ـ45

ب/علم النفس والاختلاف
يؤكد علم النفس ان من نافلة القول، ذكر ان هناك جوانب يتشابه فيها الآدميون، وجوانب أخرى يختلفون فيها. و اذا كان الأفراد هم موضع الاهتمام وليس الجماعات فانه يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من الفروق هي:
أـ الفروق بين الأفراد .
ب ـ الفروق داخل الفرد الواحد .
ج ـ الفروق من وقت الى آخر (التذبذب) .

فبالنسبة للفروق بين الأفراد، فإنها تتضح في كل ما يفرق بين الأفراد بعضهم و بعض و يختلفون فيه كالذكاء و القدرات والميول و الاتجاهات والقيم والخصائص الجسمية والفيزيولوجية، و غير ذلك كثير .و في هذا الصدد فإن الفروق الفردية مبدا أساس لا يمكن إغفاله، وإذا تشابه شخصان في صفة أو صفتين، فمن المستحيل أن نجد شخصين ـ ولا حتى التوائم الصنوية ـ يتشابهان تماما في كل هذه الجوانب مجتمعة .
وبالنسبة للفروق داخل الفرد الواحد يمكن للملاحظ غير المتخصص أن يلاحظ الفروق داخل الفرد في مختلف الجوانب، فهذا الشخص ساحر البيان إلا أنه لا يطيق كل ما يتصل بالحساب أو الأعداد، وذلك شديد العصبية و لكنه صادق الوعد، و ثالث اجتماعي ودود حسن المعشر ولكن تنتابه نوبات إغماء شديدة، ولهذه الملاحظة العامة تطبيقات سيكولوجية عديدة في مجالات التوجيه التعليمي و المهني والاختيار والتدريب والترقية و غير ذلك.
وبالنسبة للفروق من وقت الى آخر، فيشار إ ليها بالتذبذب أو التقلب في استجابة الفرد من موقف الى آخر، وقد درس هذا النوع من الفروق تفصيلا في مدرسة لندن (الذكاء) أكثر من غيره من جوانب السلوك ،ولكن إذا كان الاهتمام منصبا على السلوك أو الشخصية بوجه عام سميت هذه الظاهرة بنوعية الاستجابة أو نوعية السلوك، و النوعية عكس الثبات و العمومية، و هناك فروق فردية في التذبذب أو التقلب أو النوعية، فبعض الأشخاص أكثر تقلبا، على حين أن غيرهم أكثر ثباتا.
وبذلك يؤكد علماء ان النفس الفروق الفردية ظاهرة عامة و مبدأ مستقر، وقد تمكن الباحثون من تحديد ستة مجالات على الأقل تظهر فيها الفروق الفردية بين الآدميين وهي: الفروق في كل من الجسم، الذكاء والتحصيل، القدرات والاستعدادات الشخصية، الميول والقيم. و قد أمكن قياس الفروق الفردية في هذه الجوانب أو المجلات.

ويرى علم النفس الفارق ان أسباب الفروق الفردية يمكن حصرها في ثلاثة :
الأول :الوراثة .
الثاني:البيئة .
الثالث:نسبة التفاعل بين الوراثة والبيئة .
وبوجه عام تشمل الفروق بين المجموعات تنوعات عدة تضمها الجوانب الآتية:
1/الفروق بين الجنسين (الذكور و الإناث)
2/الفروق بين الأعمار.
3/الفروق بين الأجناس .
4/ الفروق بين الحضارات.
5/ الفروق بين الطبقات الاجتماعية .
6/ الفروق بين المتخلفين عقليا وغيرهم .
7/الفروق بين الموهوبين وغير الموهوبين .
وخلاصة القرآن والعلم يؤكدان ان الاختلاف بين البشر سنة جعلها الله سبحانه وتعالى، و لا يمكن للبشر ان يغيروا سنن الله الثابتة \”ولن تجد لسنة الله تبديلا\” \”ولن تجد لسنة الله تحويلا\” وكل ما يمكن للبشر القيام به هو استثمار هذا التنوع والاختلاف لصالح التقدم البشري.

واقع الاختلاف
و اذا ما قفلنا من حقيقة الاختلاف الى واقعه، وجدنا واقع الاختلاف قد تجاوز حقيقته، وانطلق من حدود الاختلاف الجائز الى الاختلاف الممنوع، الاختلاف الذي لا يزيد الأمة إلا تمزقا و تشر ذما وتفككا.
نحن كمسلمين انقسمنا الى سنة وشيعة، وكشيعة انقسمنا الى عدة أقسام، وكجعفريين في هذا الزمن انقسمنا الى اتباع مراجع، وكأتباع مراجع اختلفنا الى تنظيمات و أحزاب ومؤسسات وجمعيات ووحدات، ورغم ان هذا التنوع يعد من الظواهر الحضارية، إلا ان هذه التقسيمات تلعب علاقة الاختلاف بينها دورا اكبر من دور الاتفاق.
أضف الى التقسيم الجغرافي الذي مازال عامل تمزيق للامة، فهذا عراقي وهذا بحراني وهذا لبناني، بل حتى ان التقسيم المحلي داخل البلد الواحد يمثل عامل فرقة بيننا، و ألا نكى من ذلك اذا اشتراك الواحد منا في مشروع ديني أو مؤسسة اجتماعية أو تنظيم سياسي أو وحدة اقتصادية، يجعل منه عدوا لأعضاء في مشاريع ومؤسسات أخرى.
انه واقع خرج بالاختلاف عن حدود حقيقته، ويجب علينا اذا ما أردنا الخروج من شرنقة الاختلاف ان نبحث عن حل، ونسعى بصلاح شأننا قبل ان يستفحل الضعف بيننا ويقعدنا عن النهوض .

والحل في تقديري يكمن في ثلاث نقاط:
الأولى: النضج الذاتي واقصد به الوعي بالأهداف والوسائل. وهو ان نعرف ماذا نريد، وكيف نحقق هذا الذي نريد. و ان نقدر بشكل دقيق موقع الآخرين بالنسبة لما نريد، هل هم من الذين يدخلون في دعائنا اليومي في الصلاة (اهدنا الصراط المستقيم ) أم لا؟

الثاني:التعرف على الآخرين. فكثيرا ما يكون الاختلاف بسبب جهل الآخر أو فهمه بشكل مغلوط، أو تفسير بواطن نيته على عكس ما يقصد، ولنا في ذلك الاقتداء بهدي القرآن الكريم الذي يقول:
\”يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله اتقاكم\”
ولا شك ان التعارف يعني محاولة فهم الآخر، من طاقاته و إمكانياته، و أفكاره وتطلعاته. لا الاختلاف معه لمجرد ان يحمل فكرة لا تعجبني أو يتبع مرجعية لا اتبعها، أو يشترك في جمعية لست انا عضوا فيها.

الثالث:الحوار معهم. ومن خلال هذا الحوار يمكن لنا ان نقلل مساحة الاختلاف، بل قد نكتشف ان الاختلاف ليس اكثر من اختلاف لفظي فرضة طبيعة اختلاف الخطاب من مدرسة فكرية أو دينية عن الأخرى. وهذا ما كشفت عنه الكثير من التجارب.

الرابع:الإصلاح بين الأطراف المختلفة.فقد لا تكون أنت مختلفا مع أحد لكن سكوتك عن الاختلاف بين الصف الواحد وعدم قيامك بمبادرة لاصلاح هذا الاختلاف أو التقليل من آثاره السلبية، يجعله يتمدد حتى يصل في لحظة إليك، ويدمر ما قمت ببنائه في سنين، من هنا ليس غريب وصية أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أبناءه بالإصلاح، ووصفه الإصلاح بأنه افضل من عامة الصلاة والصيام.

\”وأعلموا ان إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام\”

,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *