الاختلاف والسلم


محاضرة ألقيت في المنتدى الثقافي العراقي بتاريخ :1/4/1995م.

‘,’
قال الله العظيم في كتابه الكريم :
\”إن الدين عند الله الإسلام و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب\” آل عمران 19.
لاشك ان الاختلافات التي تنتهي بالتفرقة والتمزق، تهدر الكثير من الطاقات، وتبدد الكثير من الجهود، وتحطم أي أمة تسري في أوساطها وان كانت هذه الأمة اكثر الأمم عدة و أعظمها ثروة وعددا، و أصحها دينا وعقيدة و منهجا.
ونحن كأمة أرادت لنفسها النهوض، وكجماعة و أقلية في بلد غربي، تريد الحياة بسلام و أمان، علينا ان نتلمس ثقافة الاتفاق، فنسعى لبناء علاقاتنا على ضوئها، ثم مد جسور العلاقة الطيبة مع الذين نعيش معهم على ارض واحدة.
فما هي مبادئ ثقافة الاتفاق ؟
الأول :الحرية .
الثاني : السلم .
الثالث :التسامح .
الرابع:الاخوة الإيمانية.
الخامس :التفاضل بالتقوى .
سبق وان تحدثت عن الحرية باعتبارها المبدأ الأول الذي تستوي عليه ثقافة الاتفاق، ولنتحدث في هذه المحاضرة عن المبدأ الثاني واقصد به السلم.
فهل نحن كمسلمين رجال حرب أم رجال سلام؟
بداية لنتعرف على معنى السلم، يقول الراغب الأصفهاني :
السلم والسلامة التعري من الآفات الظاهرة والباطنة، قال (بقلب سليم ) أي متعر من الدغل. وقال (ادخلوها بسلام آمنين) إي سلامة. وفي قوله (لهم دار السلام ـوالسلام المؤمن المهيمن) وصف بذلك من حيث لا يلحقه العيوب والآفات التي تلحق الخلق.
ويقول السلام والسلم و السلم بالفتح والكسر هو الصلح، وهو بازاء الحرب. و الاسلام الدخول في السلم وهو ان يسلم كل واحد منهما .
ويقول العلامة الطباطبائي في تفسيره لقوله تعالى :\”يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة\” السلم و الاسلام والتسليم واحدة، وكافة: كلمة تأكيد بمعنى جميعا، ولما كان الخطاب للمؤمنين وقد أمروا بالدخول في السلم كافة، فهو أمر متعلق بالمجموع وبكل واحد من أجزائه، فيجب ذلك على كل مؤمن، ويجب على الجميع ان لا يختلفوا في ذلك.
ويرى سماحته ان الآية وست آيات بعدها، تبين طريق التحفظ على الوحدة الدينية في الجامعة الإنسانية وهو الدخول في السلم.
على ضوء ذلك فنحن أصحاب سلم، بل ليس الاسلام إلا دين السلام، وهو يدعو اتباعه دعوة صريحة للدخول في السلم، والتوسل بالسلم في العلاقة مع الناس، وما اللجؤ الى الشدة والقتال إلا حالة استثنائية، يدعو لها الاسلام حينما لا يجد طريقا للدفاع عن نفسه ونيل حرية اتباعه وحرية نشر تعاليمه.
ولدى مراجعة كتاب الله العزيز الحكيم نجد ان قتال المشركين لم يشرع إلا بعد ان طفح كيلهم في تقتيل وتعذيب المؤمنين، والدراسة الموضوعية للغزوات والمعارك التي خاضها رسول الله (ص) تبين أنها كانت دفاعا عن دينه وبناء دولته الفتية التي تجمع الأحزاب والمشركون بهدف هدمها.
إذن فالإسلام والقرآن يدعوان المؤمنين كافة للدخول في السلام .
يقول تعالى:\”يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة\”
ويقول تعالى:\”يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام\” المائدة/16
ويقول أيضا:\”والله يدعو الى دار السلام ويهدي من يشاء الى صراط مستقيم\” يونس/25
وجعل السلام واحدا من أسمائه الحسنى وصفة من صفاته إذ يقول:
\”هو الله الذي لا اله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن ……\” الحشر/23
و إننا لنلمس التأكيد القرآني على ان الاسلام هو دين السلام في قوله تعالى:
\”يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام\”، وحينما نبحث عن رضوان الله في القرآن الحكيم نجده يجعل ذلك في الاسلام ،حيث يقول تعالى :
\”اليوم أكملت لكم دينكم ، و أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا\” المائدة/3

مع تفسير آية من القرآن
يقول تعالى :\”إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب\” آل عمران / 19
\”الدين\” في الأصل بمعنى الجزاء والثواب، ويطلق على \”الطاعة\” والانقياد للأوامر، \”الإسلام\” يعني التسليم، وهو هنا التسليم لله.
تفسير الأمثل:
إن الدين عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر عباده إلا به، ولم يبين لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلا إياه، ولم ينصب الآيات الدالة إلا له وهو الإسلام الذي هو التسليم للحق الذي هو حق الاعتقاد وحق العمل، وبعبارة أخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف والأحكام، وهو وإن اختلف كما وكيفا في شرائع أنبيائه ورسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنه ليس في الحقيقة إلا أمرا واحدا، وإنما اختلاف الشرائع بالكمال والنقص دون التضاد والتنافي، والتفاضل بينها بالدرجات، ويجمع الجميع أنها تسليم وإطاعة لله سبحانه فيما يريده من عباده على لسان رسله. الميزان:
و اذا كان الاسلام والسلام واحد، فان الدين هو السلام وقمة السلام الخضوع للإسلام، وهو الدين الذي يدان به رب السماوات و الأرضيين.
ان اختلاف أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الدين مع نزول الكتاب الإلهي عليهم، وبيانه تعالى لما هو عنده دين وهو الاسلام له فلم يكن عن جهل منهم بحقيقة الأمر وكون الدين واحدا بل كانوا عالمين بذلك، و إنما حملهم على ذلك بغيهم وظلمهم من غير عذر وذلك كفر منهم بآيات الله.
تبين هذه الآية منشأ الاختلافات الدينية فتقول :ان الذين يعلمون الحقيقة ومع ذلك يوجدون الاختلافات في دين الله فإنما هم مدفوعون بالطغيان والظلم والحسد.
ذلك لأن لكل دين سماوي دلائله الواضحة التي لا تترك إبهاما أمام الذين يبحثون عن الحقيقة. فالنبي الأكرم (ص)بالإضافة الى المعجزات والدلائل الواضحة في نصوص دينة تؤكد صدقه ـ وردت أوصافه وعلاماته في الكتب السماوية السابقة التي بقي قسم منها في أيدي اليهود والنصارى، ولذلك بشر علماؤهم بظهوره قبل ظهوره، ولكنهم بعد ان بعث رأوا مصالحهم في خطر ،فأنكروا كل ذلك، يحدوهم الظلم والحسد والطغيان.
الأمثل:
مظاهر السلم في حياة المسلمين
ان اكثر كلمة يرددها المسلمون في حياتهم الاجتماعية هي كلمة السلام، وهو مفتاح التعارف بينهم، فحينما يلتقي مسلمان لا يعرفا بعضهما من قبل، يفتتحان هذا اللقاء بكلمة السلام وهو يعني انهما يدخلان حالة سلام بينهما، فكل منهما مسالم لصاحبه.
وهذا يدل ان السلام يصبغ حياة المسلمين، ولقد كانت هذه الكلمة سببا لحقن دم أي مقاتل للمسلمين ان رفعها في حالة القتال معهم، يقول تعالى:
\”يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا ..\” النساء / 94 .
وفي الوقت الذي لم تتكرر كلمة الحرب المجردة اكثر من مرة أخرى، فان كلمة السلم ومعناه اقصد السلام و الاسلام تتكرر خمسة عشر مرة في القرآن الكريم.

وأن من أروع قصص التاريخ الإسلامي، دخول أهل يثرب في الاسلام ولم يكن هذا الدخول إلا على جناح السلام، فأهل يثرب كانوا في حرب مع بعضهم البعض دامت أربعين عاما وقد جاء بعضهم الى مكة بحثا عن الدعم لهم ضد منافسيهم في يثرب كما ورد في المجلد الثامن عشر من بحار الأنوار الصفحة التاسعة، لكنهم رأوا مكة منشغلة عنهم بالدين الجديد الذي نزل على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد(ص)، فجاءوا للنبي(ص) للتعرف على دينه الجديد الذي سبق لهم وقد سمعوا عنه في يثرب من مثقفي اليهود، فرأوا ان النبي(ص) يدعوهم للدخول في الدين الذي سيوفر لهم أجواء السلام مع أعدائهم والذين لم يكونوا سوى أخوالهم و أنسابهم وأقاربهم، فما كان منهم إلا ان دخلوا في هذا الدين العظيم، ومنذ تلك اللحظة التاريخية، تحولت يثرب من مدينة حرب الى مدينة سلام.
ان سيرة الرسول ( ص ) طيلة حياته لتؤكد صبغة السلام لكافة جوانب حياة المسلمين، لقد كان الرسول مسالما حينما كان في مكة قليل الجماعة، ولربما ظن البعض أن مسالمة رسول الله ( ص ) ضعفا، لكنه لم يحد عن استعمال السلم، بل العفو بعد تغير القوة عنده، وامتلاكه لدولة، بل انه كلما ازدادت قوته رأيناه يتمادى في استعمال السلم مع أعدائه، بل العفو. وكانت كلمة \”اسلم تسلم \” تتكرر في رسائله للأمراء والملوك في عصره.

وهنا سؤال يطرح علينا:ما الذي يزيل السلام من قلب المؤمن تجاه أخيه أو حتى عدوه ؟!
انه الحقد والرغبة في الانتقام. وهو ما حاول رسول الله ( ص ) أن يربي الأمة على التغلب عليه. ولا ينمو الحقد والضغينة إلا في أجواء الاختلافات، من هنا علينا ان نرسي ثقافة السلم في أوساطنا لنتغلب على التمددات السلبية للاختلاف.

,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *