الاختلاف و التسامح


الاختلاف و التسامح

حينما يؤمن الإنسان بفكرة ما، أو يعتقد بدين ما، أو يتعبد وفق مذهب ما فانه يندك مع ما آمن به، ويصدر في تقويمه للآخرين على ضوء قربهم أو بعدهم منها. بل انه يحب ويبغض على أساس مدى ولاء الآخرين لما يؤمن به هو.
ومع ان الاسلام يؤكد بشكل جلي على مسألة التولي و التبري، فهو يعتبر موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله جزءا مكونا لشخصية اتباعه، إلا انه لا يسقط الآخرين من حساباته، ويأمل هدايتهم حتى آخر لحظات حياتهم، الأمر الذي يتطلب من اتباعه سعيا لاستيعاب الآخرين بصورة دائمة، ولقد جعل الاسلام ثوابا عظيما لمن ادخل فردا واحدا في الاسلام فضلا عن إدخال جماعات و أقوام .

‘,’

قال رسول الله (ص) لعلي ابن أبي طالب(ع):
\”يا علي، لان يهدي الله بك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه يا علي\”
وقد يظن بداية ان الاسلام بهذه المعادلة، الدعوة للهداية من جانب و الأمر بالتولي و التبري من جانب آخر، يخلق حالة تضاد بداخل الإنسان المؤمن، أو يطلب منه مفارقة حسب التعبير الفلسفي، لكي يستطيع التوفيق بين التولي واستيعاب الآخرين،أ و يستطيع المحافظة على و حدة اتباعه مع فتحه مجالا واسعا للتعددية في حياتهم، فكيف يمكن للمذاهب الفقهية ان تحافظ على وحدة الأمة، و لا تدفعهم للتمزق و التشرذم.

انه التسامح
التسامح هو الموفق بين معادلة التولي والهداية، و هو صمام الأمان لوحدة الأمة رغم تعددها في الاجتهادات الفقهية والاستنباطات الفكرية المرتكزة على المصادر الإسلامية الأولية الكتاب والسنة، وهو المبدأ الثالث الذي ابتدعه الاسلام لخلق حالة الاتفاق والتعايش بين اتباعه من جهة، واستيعاب الآخرين من جهة أخرى. انه الركيزة الثالثة في ثقافة الاتفاق، بعد الحرية والسلام. وقد سبق لنا ان تحدثنا عنهما في محاضرات ماضية.
ما هو التسامح؟ انه ليس اكثر، من قبول وتحمل الآخرين رغم ما عندهم من اختلاف وتباين معك.
فلنرى صور التسامح لدى الاسلام

1/ التسامح مع اتباع الديانات الأخرى:
هنالك حديث يعتبره الفقهاء قاعدة واصلا للعديد من الأحكام الشرعية ينص على حق أهل كل دين أو مذهب بالالتزام بأحكام وتعاليم دينهم وطريقتهم، وهو ما تعارف عليه الفقهاء بقاعدة الإلزام (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) وعن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) :\”انه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم\”
وما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر الإمام الباقر (ع) :قال سألته عن الأحكام ؟ قال: تجوز على كل ذوي دين ما يستحلون \”
وفي روايات متعددة:(ان المجوس يورثون على ما يعتقدون وان لكل قوم نكاحا)
وروى الكليني عن أبي عمير، عن عبد الله بن سنان قال: قذف رجل مجوسيا عند أبي عبد الله، فقال له الإمام الصادق (ع):مه، فقال الرجل:انه ينكح أمه و أخته. فقال الإمام:ذاك عندهم نكاح في دينهم .
وفي رواية الغوالي:ان رجلا سب مجوسيا بحضرة الإمام الصادق(ع) فز بره ونهاه، فقال له:انه تزوج بأمه. فقال عليه السلام:أما علمت ان ذلك عندهم النكاح.
وهذه النصوص تظهر روعة تسامح الاسلام وحمايته للحريات، فانه ليس فقط يمنح الحرية لسائر اتباع الأديان في عباداتهم و أحكامهم، و إنما يأمر المسلمين باحترام تلك الأحكام لاصحابها.

2/الأمام علي (ع) يتسامح مع أعدائه
رغم ان المتمردين على الإمام من الخوارج تجرءوا حتى على تكفيره واتهموه بالشرك، ولكنه رفض ان يبادلهم التهمة بل اعترف لهم بالإسلام وعاملهم معاملة المسلمين.
ففي مصنف ابن أبي شيبة بسنده عن كثير بن نمر قال:
\”بينا انا في الجمعة وعلي بن أبي طالب على المنبر إذ قام رجل فقال :لا حكم إلا لله ،ثم قام آخر فقال :لا حكم إلا لله ،ثم قاموا من جميع نواحي المسجد يحكمون الله ، فأشار عليهم بيده:اجلسوا.
ثم قال:نعم لا حكم إلا لله، كلمة حق يبتغى بها باطل، حكم الله ينتظر فيكم، ألا ان لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا: لن نمنعكم مساجد الله ان يذكر فيها اسمه، و لا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلوا، ثم أخذ في خطبته \”
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه، قال: سئل علي عن أهل الجمل: امشركون هم؟ قال: من الشرك فروا، قيل: أمنافقون هم؟ قال ان المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.

3/التسامح بين المسلمين أنفسهم
1ـ عن يعقوب بن الضحاك عن رجل من أصحابنا سراج وكان خادما لابي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) في حاجة وهو بالحيرة أنا وجماعة من مواليه، فانطلقنا فيها ثم رجعنا مغتمين، وكان فراشي في الحائر الذي كنا فيه نزولا، فجئت و انا بحال فرميت بنفسي.
فبينما انا كذلك اذا أنا بابي عبد الله قد اقبل. فاستويت جالسا وجلس على صدر فراشي فسألني عما بعثني له، فأخبرته، فحمد الله، ثم جرى ذكر قوم فقلت: جعلت فداك، انا نبرأ منهم انهم لا يقولون ما نقول‌.
فقال:يتولونا و لا يقولون ما تقولون تبرؤون منهم؟
قلت:نعم.
قال:فهو ذا عند الله ما ليس عندنا افتراه اطرحنا؟
قلت:لا والله جعلت فداك. ما نفعل؟
قال:فتولوهم ولا تبرئوا منهم.
ان من المسلمين من له سهم، ومنهم من له سهمان، ومنهم من له ثلاثة أسهم، ومنهم من له أربعة أسهم، ومنهم من له خمسة أسهم، ومنهم من له ستة أسهم، ومنهم من له سبعة أسهم.
\”فلا ينبغي ان يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاث، ولا صاحب الثلاث على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستة، ولا صاحب الستة على ما عليه صاحب السبعة …\”

2ـ وعن عبد العزيز القراطيسي قال:قال لي أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): \”يا عبد العزيز ان الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم. يصعد منه مرقاة مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد: لست على شيء.. حتى ينتهي إلى العاشرة.
فلا تسقط من هو دونك، فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمنا فعليه جبره \”.

3ـ عن الصباح أبي سيابة، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: \”ما أنتم والبراءة يبرأ بعضكم من بعض؟
ان المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم انفذ بصيرة من بعض، وهي الدرجات\”.

4 ـ عن عمار بن أبي الأحوص قال : قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): ان عندنا أقواما يقولون بأمير المؤمنين ويفضلونه على الناس كلهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم انتولاهم؟
فقال لي:\” نعم في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله؟ وعند رسول الله (صلى الله عليه وآله) من عند الله ما ليس لنا، وعندنا ما ليس عندكم، وعندكم ما ليس عند غيركم ؟
ان الله تبارك وتعالى وضع الإسلام على السبعة أسهم: على الصبر، والصدق، واليقين، والوفاء، والعلم، والحلم. ثم قسم ذلك بين الناس فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم، فهو كامل الإيمان محتمل. ثم قسم لبعض الناس السهم، و لبعض ثلاثة اسهم، و لبعض الأربعة اسهم، ولبعض الخمسة، ولبعض الستة اسهم، ولبعض السبعة اسهم. فلا تحملوا على صاحب السهم سهمين، ولا على صاحب السهمين ثلاثة ا سهم، ولا على صاحب الثلاثة أربعة أسهم، و لا على صاحب الأربعة خمسة اسهم. و لا على صاحب الخمسة ستة أسهم. و لا على صاحب الستة سبعة أسهم. فتثقلوهم وتنفروهم ولكن تر فقوا بهم وسهلوا لهم المدخل..)).

5 ـ مرة سمع الإمام أبو جعفر (عليه السلام) من تلميذه المخلص زراره وهو يتحدث بحدة وتطرف عمن يخالف منهج أهل البيت (عليهم السلام).
ويقول: \”من وافقنا من علوي أو غيره توليناه ، ومن خالفنا برئنا منه من علوي أو غيره \”
فرد عليه الإمام الباقر فورا \”يا زراره قول الله أصدق من قولك، أين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا\” مشيرا الى قوله تعالى :\”وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم ان الله غفورا رحيم\”.

6 ـ عن القاسم بن الصيقل رفع الحديث الى أبي عبد الله الصادق (ع) قال: كن جلوسا عنده \”الإمام الصادق\” فتذاكرنا رجلا من أصحابنا، فقال بعضا : ذلك ضعيف؟
فقال أبو عبد الله (ع): \”ان كان لا يقبل ممن دونكم حتى يكون مثلكم لم يقبل منكم حتى تكونوا مثلنا\”

7ـ العوامل المشتركة بين المسلمين
كتب الإمام الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء في مجلة رسالة الاسلام ما يلي: \” ان المسلمين جميعا مهما اختلفوا في أشياء من الأصول والفروع فانهم قد اتفقوا على مضمون الأحاديث المقطوعة عندهم بصحتها من ان من شهد الشهادتين، واتخذ الاسلام دينا له فقد حرم دمه وماله وعرضه، والمسلم أخو المسلم، وان من صلى على قبلتنا وأكل من ذبيحتنا، ولم يتدين بغير ديننا فهو منا له مالنا وعليه ما علينا. وكفا بالقران جامعا لهم مهما بلغ الخلاف بينهم في غيره، فان رابطة القران تجمعهم في كثير من الأصول والفروع، تجمعهم في اشد الروابط من التوحيد والنبوة والقبلة و أمثالها من الأركان والدعائم واختلاف الرأي في ما يستنبط أو يفهم من القران في بعض النواحي اختلاف اجتهادي لا يوجب التباغض و التعادي\”.
وكتب العلامة الشيخ محمد جواد مغنية يقول:
\”المسلم من صدق مقتنعا بكل ما اعتبره الاسلام من الأصول والفروع، والأصول ثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد، فمن شك في اصل منها أو ذهل عنه قاصرا أو مقصرا فليس بمسلم، ومن آمن بها جميعا جازما فهو مسلم. فالتدين بالأصول أمر لابد منه للمسلم، ولا يعذر فيه الجاهل، أما إنكار الأحكام الفرعية الضرورية فضلا عن الجهل بها، فلا يضر بإسلام المسلم إلا مع العلم بأنها من الدين، فالإمامة ليست أصلا من أصول دين الاسلام وانما هي اصل لمذهب التشيع، فمنكرها مسلم اذا اعتقد بالتوحيد والنبوة والمعاد ولكنه ليس شيعيا\”.

,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *