بين الحرية والاختلاف


محاضرة ألقيت في المنتدى الثقافي العراقي في الدنمارك بتاريخ: 23/3/1995م.

‘,’
قال الله العظيم في كتابه الكريم:
بسم الله الرحمن الرحيم
\”كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم \” البقرة/213
في ضوء هذه الآية المباركة يرى بعض المفسرين، ان تاريخ الاختلافات البشرية مر بأربع مراحل، وقد سبق وان تطرقنا الى ذلك في المحاضرة الماضية. و اذا ما أردنا التفصيل في فهم الآية المباركة، فإننا سنجدها، تتكون من خمسة مقاطع.

1/كان الناس أمة واحدة
الناس هم الأفراد المجتمعون من الإنسان، والأمة:اصل الكلمة من أم يام اذا قصد،فاطلق على الجماعة لكن لا على كل جماعة، بل على جماعة كانت ذات مقصد واحد، وبغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها.
وكيف كان فظاهر الآية يدل على ان هذا النوع قد مر عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتحاد والاتفاق ،وعلى السذاجة والبساطة، لا اختلاف بينهم في أمور الحياة ولا اختلاف في المذاهب والآراء .
بعد فترة من الزمن وقع الاختلاف عند هؤلاء الناس، يقول تعالى :
\”و ما كان الناس أمة واحدة فاختلفوا\” يونس /19.
وكان هذا الاختلاف أمرا فطريا راجعا للطبيعة البشرية التي جبلت على التباين بين البشر، ومن ناحية أخرى بدء الإنسان في مرحلة التفكير الأولي لحاجته للإجابة على الأسئلة التي كان يطرحها العقل البشري، الذي تعصى على الإنسان إيقافه عن التفكير.
ويمكن القول ان الإنسان حينما كان في مرحلة الأمة الواحدة، كان منشغلا بالدرجة الأولى بمواجهة مصاعب الحياة و الأخطار الطبيعية التي كانت تهدده، لذلك لم يكن متفرغا للإنتاج الفكري، الأمر الذي يتباين الناس فيه. أضف الى ذلك الطبيعة الاجتماعية لدى الإنسان، التي دفعته لإيجاد صيغ من التشريع للعلاقة بين أعضائه.

2/فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين
لا يمكن للسماء ان تترك الإنسان في الأرض يتوه في صراع الآراء المتباينة، فلابد ان تعطي الإنسان إجابة على الأسئلة الكبرى التي تواجهه.وقد تمثلت هذه الأسئلة في أسئلة ماسمي بالمرحلة الأسطورية في حياة البشر، التي كان يغلب عليها طابع البساطة والسذاجة.
يمكن الاستفادة من لفظ النبيين (لا المرسلين \”ألوا العزم أصحاب الرسالات والكتب\”) ان هؤلاء بعثوا أولا لكي يمهدوا الطريق لرسالات السماء، ويبدوا ان لا فرق بين ان يكون ابعاثهم في مرحلة الأمة الواحدة، أم حين الاختلاف.

3/ وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
أول كتاب يحتوي على قوانين الشريعة كان مع نوح عليه السلام، ويدل هذا على ان الأمة الواحدة كانت قبل نوح (ع). وبالتدبر في هذا المقطع من الآية نرى أهمية وجود نص مكتوب يرجع له حين الاختلاف ويتضمن تقنينا للاختلافات المتوقعة.

4/وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم .
المقصود به الاختلاف الواقع في نفس الدين، وقد ارجع الله سبحانه وتعالى الاختلاف في الدين للبغي. فالمراد حسب الآية المباركة ان هذا الاختلاف ينتهي الى بغي حملة الكتاب من بعد علم.

5/فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه
لاشك أننا ونحن نعيش على وجه هذه الأرض في قبضة الله، يتحكم فينا بمشيئته، لكن هنالك شروطا تجعل مجموعة من الناس قادرة على تجاوز أزمتها والانطلاق الى رحمة الله ورضوانه ونيل هدايته في موارد الاختلاف.

ويظهر من خلال الآية الكريمة ان هنالك شرطين للخروج بنجاح من دوامة الاختلافات :
الأول:الإيمان .
الثاني:تجنب البغي .
ما هو البغي ؟
البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى، تجاوزه أم لم يتجاوزه، وهو على جزأين:
أحدهما محمود و هو تجاوز العدل الى الإحسان والفرض الى التطوع. والثاني: مذموم و هو تجاوز الحق الى الباطل.
فإذا ما اتضح لنا أننا حين نختلف اليوم مع بعضنا البعض فان ذلك يرجع إما الى ضعف في الإيمان و إما الى تجاوز الحدود على بعضنا البعض، وهذا ما يتطلب منا وقفة لمراجعة دقيقة لمواقفنا ونظرتنا اتجاه الآخر.
وبسبب أننا حساسون في توجيه مثل هذا النقد لأنفسنا، بان نشكك في حقيقة ونقاء إيماننا، أو نرى أنفسنا في موقع الظالمين، كان لابد لنا من توجه نحو القفز على الاختلاف الى البحث عن الثقافة التي يمكن لها ان تقلل من وقعه، وترسي حالة الاتفاق في المجتمع وبالذات في أوساط المؤمنين.

فكيف نبني ثقافة الاتفاق في أوساطنا ؟
وما هي المبادئ الأساسية في هذه الثقافة؟
تعتمد ثقافة الاتفاق أولا و قبل كل شيء على مبدأ الحرية.
يقول تعالى :\”الله لا اله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات و الأرض و لا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم،لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ،الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون\”
في سياق آيات عظيمة تؤكد عظمة الله و مالكيته للكون، وكونه حيا قيوما، لا يغفل للحظة زمن، مع تأكيد على مصير المؤمنين النير، ومصير الكافرين المظلم، يؤكد سبحانه وتعالى على مبدأ الحرية الدينية .
\”لا إكراه في الدين\”
وهذا إعلان صريح وواضح من حرية الاعتقاد، يقول العلامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية:\”لا إكراه في الدين\”: ان كانت قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين، انتج حكما دينيا ينفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وان كان حكما إنشائيا تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله \”قد تبين الرشد من الغي\” كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد و الإيمان كرها، وهو نهي متك على حقيقة تكوينية، وهي.. ان الإكراه إنما يعمل ويؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية. الميزان ج2ص342.

وقد جاء في أسباب نزول هذه الآية ،روايتان :
1/كانت النضير أرضعت رجالا من الاوس، فلما أمر النبي(ص) بإجلائهم قال أبناؤهم من الاوس:لنذهبن ولندين دينهم، فمنعهم أهلوهم واكرهوهم على الاسلام، ففيهم نزلت هذه الآية.

2/نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي (ص) ألا استكرههما فانهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فانزل الله فيه ذلك.

و إننا نرى ان التعبير القرآني جاء في صورة النفي المطلق للإكراه، وهو ما يسميه النحويون بنفي الجنس، نفي جنس الإكراه، أي نوع من الإكراه، وهو اعمق إيقاعا و أكد دلالة.
كما ان هنالك آيات أخرى تعزز الحرية الدينية بصف هذه الآية :
يقول تعالى:\”انا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا\”
\”ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين\” يونس/99.
ويقول تعالى أيضا :
\”فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر\” الغاشية /21،22
\”وقل الحق من ربك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر\” الكهف /29
ويقول أيضا:
\”نحن اعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد\”
إذن..اذا الله سبحانه وتعالى يجعل الناس أحرارا في اختيار الإيمان به، أترى يرضى لهم بعد ذلك ان يكونوا غير أحرار في دنياهم، كأن يكونوا اسراء لإنسان ما أو فكرة ما أو ظرف ما؟
ان روح الدين تؤكد ان الإنسان حر في اختيار الدين وهو اكثر حرية حينما يصبح متدينا، بل ان الدين يعالج انحراف مدعي التدين بدعوته للعودة للحرية. وهذا يعني بشكل واضح ان الإنسان حينما يختار حريته فانه لن يرى حريته خلاف الحق، والدين لا يجانب الحق، بل يدعوا إليه .
ان الكثير من تمددات الاختلافات في واقعنا وتحولها الى صراعات شرسة، راجعة بالدرجة الأولى لتنازل قطيع من الناس عن حرياتهم، و إعطاء عقولهم إجازة في قبال الانقياد لفكرة ما أو إنسان ما أو رغبة ما، ولربما لم تكن الفكرة أو الإنسان أو حتى الرغبة، تروم هذا التضخم من الاختلاف وتحوله الى صراع مرير.
يقول الإمام علي عليه السلام:
\”إنما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع و أقوال تتبع فيتبع رجال رجالا..\”

وهنا سؤال يفرض نفسه، ما الذي يجعل الإنسان يتنازل عن حريته ؟
والجواب: قد يتنازل الإنسان عن حريته، طلبا لخير يرغب فيه أو درأ لشر يخاف منه، فقد يرغب الإنسان في مال أو جاه أو سلطان أو حماية، وقد يخاف فقدان شيء من ذلك أو حتى فقدان حياته .
جيء بامرأة للخليفة الثاني عمر ابن الحطاب شهد عليها جماعة بالزنى و أراد إقامة الحد عليها لكنها طلبت الاستئناف وان يقضي في أمرها الإمام علي عليه السلام، ولما وقفت بين يديه أخبرته أنها تاهت في الصحراء وكاد العطش ان يقضي عليها فاستسقت الفاعل ماء لكنه أبى إلا ان تمكنه من نفسها فرفضت حتى أشرفت على الموت، حينها وافقت على شرطه. فاستثناها الإمام علي عليه السلام من الحد، ورأى أنها ممن تنطبق عليه حالة الاضطرار.
قد يضطر الإنسان للتنازل عن حريته لبعض الوقت، للحفاظ على ما هو أهم منها وهي الحياة، وسوى ذلك لاشيء اثمن بالنسبة للإنسان من حريته .
ومن أسوء حالات التنازل عن الحرية، هروب المرء من تقرير علاقاته مع الناس و الأفكار والرغبات بنفسه، و ايكال تلك المهمة لآخرين أو للظروف، وهذه الحالة بالذات هي ما نعانيه في أوساطنا .
وان العلاج الأنجع للعودة للحق والخروج من شرنقة الاختلافات، العودة للحرية، فطالما كان الإنسان أسيرا فانه لن يستطيع التوصل للحقيقة. ألم يقل أبو عبد الله الحسين عليه السلام لأعدائه ظهر عاشوراء وبعد ان رأى ان القوم لا يعرفون الدين الذي يعرفه :
\”ان لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم\”
ذلك لان الحرية تأبى على صاحبها ان يكون بصف الباطل.

هنا قد يبدر سؤال أخر، اذا كان الإنسان حرا، أفلا يتناقض ذلك مع الخضوع لأية قيادة بما في ذلك القيادة الدينية المتمثلة في النبي أو الإمام المعصوم أو الإمام الفقيه ؟
والحق ان الإنسان حر في اختيار الدين الذي يؤمن به، وحينما يختار الدين الذي جاء من الله \”الاسلام\” فانه بحريته اختار طريقة الخضوع، فتصبح حريته في خضوعه لا تمرده، بلى هو رقيب على القيادة التي يتبعها في قيادته في خط الولاية لله.

وقد يأتي سؤال ساذج يقول :هل تريد القول أننا لكي نخرج من أجواء الاختلافات علينا الخروج من الدين إلى الحرية؟
والجواب بالتأكيد ليس كذلك، كما يفهم السائل، بل هو خروج من الاختلاف للدين. إذ أن الحرية ليست إلا قمة الخضوع لله.
ان المسؤولية الفردية التي رسمها الاسلام للإنسان، واعتبره محاسبا عنها يوم القيامة بغض النظر عن مواقف الآخرين ليؤكد بشكل جلي الحرية الفردية، رغم النصوص الكثيرة التي تؤكد المسؤولية الاجتماعية، فالإنسان حسب النظرة الإسلامية مسؤول عن إصلاح نفسه ومسؤول عن إصلاح مجتمعه والزمان الذي يعيش فيه، ولاشك انه سيسأل يوم القيامة عن ذلك، لكنه في ذات الوقت مسؤول بالدرجة الأولى عن شخصه، إذ عدم صلاح مجتمعه وزمانه لن يغفر له يوم الحساب أخطاءه الشخصية.

,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *