خطبة الجمعة ليوم 21/04/2000


الخطبة الأولى
لنتعلم من إيمان الحسين وأصحابه

الخطبة الثانية

‘,’

الخطبة الأولى: لنتعلم من إيمان الحسين وأصحابه

عباد الله .. أوصيكم ونفسي بتقوى الله .
والعمل من أجل عمارة القلب بالإيمان ، فالإيمان به سبحانه وتعالى ، يصنع ما يجعل العقل عاجزا عن فهمه واستيعاب أعماقه .
ألم نمر خلال الأيام الماضية بذكرى واقعة الطف العظيمة ، التي حدث فيها من مواقف أبى عبد الله الحسين ، ومواقف أهل بيته وأصحابه ، ما يصعب تفسيره اعتمادا على المسلمات العقلية ، ولا بد لنا لفهمه من استخدام منطق الإيمان الذي يتسامى فوق العقل .
فالإيمان يصنع المعجزات ، ويحول موقف الضعف الى قوة . والقلة الى كثرة . والضياع الى وجود .
فتعالوا أيها الأحبة المؤمنون ، نتعلم من الحسين وأصحابه كيف نعمر قلوبنا بالإيمان ، لنصنع نقلة في حياتنا ، تنفعنا في دينانا وأخرتنا .
ولنعلم أن ما حدث في الطف من مواقف يصعب قياسها بمنطق العقل فقط ، إنما كان نتيجة لممارسات وتدريبات إيمانية كان يقوم بها أبطال كر بلاء طيلة حياتهم .وتكاثفت هذه التدريبات في الساعات الأخيرة من حياتهم ، لأنها كانت الملجأ الذي يرجعون إليه حين لا يكون أي ملجأ أخر قادرا على إشعارهم بضآلة الدنيا وتفاهتها .
واقصد بهذه الممارسات والتدريبات ، الإغراق في العبادة والخشوع والتذلل لله سبحانه وتعالى .
فقد ذكر المفكرون المسلمون \” أن الحسين اتجه ـ منذ الصغر ـ بعواطفه ومشاعره نحو الله ، فقد تفاعلت جميع ذاتياته بحب الله والخوف منه ،ويقول المؤرخون : انه عمل كل ما يقربه الى الله فكان كثير الصلاة والصوم والحج والصدقة وأفعال الخير .
وحين سأله أحدهم \” ما أعظم خوفك من ربك؟\”
قال \”ع\”:لا يأمن يوم القيامة إلا من خاف الله في الدنيا \”
وذكروا : أنه عليه السلام كان في اكثر أوقاته مشغولا بالصلاة والصيام وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ـ كما حدث بذلك ولده زين العابدين ، وكان يختم القرآن الكريم في شهر رمضان . وقد حج خمسا وعشرين حجة ماشيا على قدميه ، وكانت نجائبه تقاد بين يديه . ولقد ذكر المؤرخون أن جيش بن سعد زحف على معسكر الحسين \”ع\” يوم التاسع من المحرم ، لكن الحسين \”ع\” أرسل إليهم أخاه العباس ، يطلب منهم تأجيل المبارزة الى اليوم العاشر من محرم ، أي اليوم الثاني .
وحين استفسر أبو الفضل العباس عن مبرر سيد الشهداء لتأخير الحرب يوما آخر ، قال له \” ارجع إليهم فان استطعت أن تؤخرهم الى غدوة لعلنا نصلي لربنا هذه الليلة وندعوه ، ونستغفره فهو يعلم أني أحب الصلاة وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار \”
وهكذا ترون أن سيد الشهداء رغب في إطالة حياته يوما واحدا لأجل:
1/الصلاة 2/تلاوة القرآن 3/الدعاء 4/الاستغفار .
وهذه الأفعال الأربعة هي التي كان سيد الشهداء يداوم عليها طيلة حياته ، ولما اقتربت لحظة شهادته ، ورغم خطورة الموقف الذي يستتبعه عادة اضطراب وقلق نفسي ، إلا أن الحسين \”ع\” كثف من اتصاله بالله سبحانه وتعالى ، لكي يدلل على أن قيمة هذه الدنيا في قدرتها على تقريبه من الله سبحانه وتعالى ، وهذا ما ينبغي لنا تعلمه من سيد الشهداء ان أردنا عمارة قلوبنا بالإيمان بالله جل وعلى .
لقد كانت ليلة عاشوراء بالنسبة للحسين وأصحابه ليلة تضرع وخشوع وعبادة أكثر من كونها ليلة معركة واستعدادات عسكرية .
فكانوا ـ فيما يقول المؤرخون ـ لهم دوي كدوي النحل وهم ما بين راكع وساجد وقارئ للقرآن ، ولم يذق أحد منهم طعم الرقاد فقد أقبلوا على مناجاة الله والتضرع إليه ، وهم يسألونه العفو والغفران ، واعلاء الدرجة عنده .
وكانوا مستبشرين بقرب لقاء الله جل وعلى ، فهذا حبيب بن مظاهر خرج الى أصحابه وهو يضحك قد غمرته الأفراح فأنكر عليه يزيد بن الحصين التميمي قائلا :
\”ما هذه ساعة ضحك ؟‍
فأجابه حبيب ، كاشفا عن ايما نه العميق قائلا:
\”أي موضع أحق من هذا بالسرور ؟ والله ما هو إلا أن تميل عينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين \”
وداعب برير عبد الرحمن الأنصاري ، فاستغرب منه وقال له :
\”ما هذه بساعة باطل \”
فاجابه برير:
\”لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل كهلا ولا شابا ، ولكني مستبشر بما نحن لاقون ، والله ما بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ، وودت أنهم مالوا علينا الساعة \”
ولقد أثرت هذه الحالة من التضرع الى الله ، في معسكر العدو ، فانتفض بعض المخدوعين ببني أمية ، وأنضم الى معسكر الحسين \”ع\” قرابة ثلاثين مقاتلا . في تلك الليلة .
إما فجر عاشوراء فقد بدأه الإمام العظيم واصحابه بالصلاة ، وكان فيما يقول المؤرخون : قد تيمم هو وأصحابه للصلاة نظرا لعدم وجود الماء عندهم وقد اأتم به أهله وأصحابه .
ومع شروق أشعة الشمس ..خرج أبي الضيم فرأى البيداء قد ملئت خيلا ورجالا ، وقد شهرت السيوف والرماح ، وهم يتعطشون الى إراقة دمه ودماء البررة من أهل بيته وأصحابه لينالوا الأجر الزهيد من ابن مرجانه ، فدعا\”ع\” بمصحف فنشره على رأسه ، وأقبل على الله يتضرع إليه قائلا :\”اللهم أنت ثقتي في كل كرب ، ورجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، كم من هم يضعف فيه الفؤاد ، وتقل فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدو ، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك ففرجته وكشفته وكفيته ، فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة \”
ويلمس في هذا الدعاء مدى إيمانه العميق فقد أناب الى الله وأخلص له في جميع مهامه ، فهو وليه ، والملجأ الذي يلجأ إليه في كل نازلة نزلت به .
وانتصف النهار وجاء ميقات صلاة الظهر ، فوقف المؤمن المجاهد أبو تمامة الصائدي فجعل يقلب وجهه في السماء كأنه ينتظر أعز شيء عنده وهي الصلاة فلما رأى الشمس قد زالت التفت الى الإمام قائلا : \” نفسي لنفسك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، والله لا تقتل حتى اقتل دونك وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة التي قد دنى وقتها..\”
فقال له الإمام \”ع\” ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين ، نعم هذا أول وقتها\”
وبالرغم مما كان الإمام يعانيه من الخطوب الفادحة التي تتصدع من هولها الجبال فان فكره كان مشغولا بأداء فريضة الصلاة التي هي من أهم العبادات في الاسلام ، وطلب من أعدائه أن يمهلوه ليصلي لربه ، فاستجابوا له .
وأقبل على الله بقلب منيب فصلى بمن بقي من أصحابه صلاة الخوف .
بلى أيها الأحبة والمؤمنون .
لقد كان لسان حال أبي عبد الله الحسين \”ع\” يردد في كل لحظة من يوم عاشوراء .
الهي تركت الخلق طرا في هواك وأيتمت العيال لكي أراك
فلـو قطعتني فـي الحب إربا لمـا مال الفؤاد الى سواك
فتعالوا نتعلم من سيد الشهداء ، وأصحابه الغر الميامين ، كيف نعمر قلوبنا بالإيمان، وحيينها سنواجه أي موقف في الحياة بقلوب مطمئنة ، وسيزداد استبشارنا كلما تقدمنا في الأعمار ، لأننا نقترب من لقاء الله سبحانه وتعالى . وسيكون لقاؤنا لقاء الحب لا لقاء الخوف .

الخطبة الثانية:

عباد الله ..
لاشك أنكم لاحظتم كما لاحظت أنا ،ان الشعائر الحسينية التي احتفلنا بها خلال العشرة الماضية من محرم الحرام ، قد استقطبت الجميع .
بدءا من الشيخ الراحل في العمر ، ومرورا بالكهل فالشاب فالصبيان فالأطفال ، ومن الذكور والإناث على حد سواء.
وقد كشف لنا ذلك عن تمكن الحسين في أعماق قلوب الجميع ، وأنه السفينة السريعة التي يرغب الجميع ركوبها ، والبوابة الواسعة التي يتشوق الجميع للدخول منها . ولاشك أن هذا ما أراده أئمة أهل البيت حين دعونا الى إحياء ذكرى واقعة الطف الأليمة وشهادة أبى عبد الله الحسين \”ع\”.
إذ قالوا \” أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا \”
وهنا علينا أيها الأحبة أن نتوقف لنتأمل الغاية من هذه الشعائر ، فما هي إلا علائم في طريق ما ، تماما كما هي الإشارات التي توضع على طريق لترشدك الى مؤدي هذا الطريق ، وما لم يستوعب الإنسان الغاية من هذه الإشارات فانه سيضيع الطريق . ومن ثم ستفقد هذه الإشارات معناها .
إنكم تدركون أيها الأحبة ، أن هدف هذه الشعائر ، وهدف سيد الشهداء\”ع\”الأخذ بأيدي الناس في طريق العبودية لله سبحانه وتعالى وهذا ما يستدعي منا التأمل فيما نجده من تفاعل مع الشعائر \” الوسائل\”والأهداف والغايات منها ؟!
فأنت حين تجد أن جموعا من المؤمنين يبذلون الغالي والنفيس ، ويعطون من أوقاتهم الثمين ، ويصرون على إحضار حتى أطفالهم الى مجالس أبى عبد الله الحسين ليبارك لهم الحسين في مستقبل أعمارهم ، ويقتطعون من أوقات التزاماتهم المعاشية ، للاحتفال بذكرى الحسين \”ع\”.
فانك تقول مع نفسك ، أن هذه الجموع قادرة على تعديل مسار مجتمعها ، بل ومسار العالم في اتجاه حركة التوحيد والعبودية لله سبحانه وتعالى ، ولربما ذهب بنا التفاؤل بعيدا لنقول أن مستقبل العولمة الدينية المحمدية الممهدة لقدوم الحجة ـ أرواحنا لمقدمه الفداء ـ قد اقتربت لحظتها .
لكن الذي يحدث في كل عام ، أن انفضاض الاجتماعات في العشرة الأولى من محرم الحرام ، يعيدنا الى سابق عهدنا ، وكأننا لم نتألم لمصاب الحسين ، وكأننا لم نسل مدامعنا كل مسيل من أجل الحسين ، وكأننا لم نفهم بعد لماذا قتل الحسين \”ع\”؟!،ومن الذي قتل الحسين؟!
فتتحول تلك الدموع السافحات الى مجرد تعبير عن احتقان بالنفس . وتلك اللطمات على الصدود الى مجرد تعبير عن عجز عن ضرب عدو لدود. وتلك الصرخات المدوية الى مجرد تعبير عن خوف من ظلام نريد تبديده .
تعالوا أيها الأحبة قبل أن تجف دموعنا ، وتخف آلام صدورنا ، وترتخي أحبال أصواتنا ، تعالوا نقلص التماسف بين الشعائر وغاياتها ، بين مصرع الحسين ومقصده .
فقضية الحسين ليست قضية جسد مقطع ، بل هي قضية حق مضيع ورسالة تتضعضع .
رسالة يريد لها سيد الشهداء أن تنتقل من جيل الى جيل عبر مجموعة من الشعائر الحسينية.
وسيتوقف تضعضع هذه الرسالة ، حين نجد أن الطفل الذي دوام الحضور والمشاركة في مجالس سيد الشهداء قد اقترب أكثر من القرآن الكريم ، واصبح لسانه يلهج بالقرآن بدل التغني بكلمات تافهة . حافظ على لغته العربية ألام بدل أن يكون كارها لها ولثقافة أهلها.
وسيتوقف تضعضع هذه الرسالة ، حين نجد أن الشباب الذي سالت دموعهم لمصاب الحسين ، أصبحوا حريصين على حضور أماكن العبادة والذكر كحرصهم على حضور مجالس العزاء والرثاء . وابتعادهم عن تضييع أوقاتهم في مالا يعود عليهم بالنفع دينا وأخرة.
وسيتوقف تضعضع هذه الرسالة ، حين نجد أن المرأة والشابة المسلمة ، قد تشددت في التزامها بعد أيام عاشوراء ، أكثر من ما مضى من أيام قبل عاشوراء .
وكذلك ، ستتوقف حين .. يهذب الكبار سلوكهم ، ويتخلقون بأخلاق الحسين \”ع\” ،ويتنازلون عن فرديتهم في سبيل التعاون والتنسيق مع بعضهم ، لا نشاء المؤسسات الحضارية التي تحول الحسين \”ع\” من الحسينية الى الجامعة ، ومن الجامعة الى المجتمع .
اللهم اغفر لنا ..


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *