مع الحسين في خطواته وكلماته – استراتيجية الحسين


كثيرًا ما يقع النقاش بين المهتمين بقضية الإمام الحسين عليه السلام عن سبب نهوضه والتضحية الكبيرة التي قام بها، وهل أنه كان يسعى لاسقاط حكم يزيد بن معاوية ليكون حاكمًا بدلًا عنه، أم أن حركته لمجرد الاعتراض على تولي يزيد للسلطة؟
وكيف يواجه الحسين بعدد لا يزيد عن ثمانين مقاتلًا على أقصى تقدير جيشًا يفوق الثلاثين ألفًا، أليس في ذلك مغامرة غير محسوبة؟

ثم أليس الحسين (ع) يعلم من خلال أحاديث جده رسول الله ( ص) المتواترة، والتي سمعها الكثيرون من الصحابة، بأنه مقتول وأنه شهيد هذه الأمة فما الداعي لخروجه من المدينة وإحداث ضجة كبرى لايزال صداها يهز الأمة الإسلامية إلى اليوم؟

في تقديري أن الوصية التي أعطاها الحسين عليه السلام لأخيه محمد بن الحنفية قبل مغادرته للمدينة المنورة، تكشف استراتيجيته سلام الله عليه، وتجيب على كل تلكم التساؤلات، وتعطي تفسيرًا عقلائيا وشرعيًا لكل الخطوات التي قام بها.

لنقرأ الوصية مجددًا، ونتوقف أمام خطوطها العريضة، ونتأمل فقراتها، و نرى بعضًا من مصاديقها في حركته سلام الله عليه، قال:

*هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ إلي أخيه محمد بن الحنفية، أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، وأنّ الجنة حق والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين*) .

بداية نلاحظ أن الوصية تنقسم إلى ستة أقسام، وبمجموعها تشكل استراتيجية الحسين عليه السلام في نهضته المباركة، وهذا التقسيم هو ما ينطبق على أي تحرك في أي مجتمع، فأنا وأنت حين نرى أو نسمع عن حركة جديدة في المجتمع، علينا تقويمها (تقييمها) في ضوء هذه الأقسام التي حددها الإمام الحسين عليه السلام.

وقبل تسليط الضوء على الأقسام، لا بد من ملاحظة أن الحسين عليه السلام لم يقبل لنفسه أن يكون منفعلًا بخطة عدوه، الذي وضعه أمام خيارين إما البيعة أو القتل، بل اختط استراتيجيته الخاصة التي كسب بها الوقت لصناعة صدمة في الأمة الإسلامية تتردد أصداؤها إلى يومنا هذا، وهي مستمرة ما بقي الدهر.

وهذا ما يرجعنا للتأكيد مجددًا على طبيعة رسالة الحسين في الحياة، وهي رسالة الأنبياء والمرسلين الذين أرادوا استفزاز عقول الناس وقلوبهم وضمائرهم وجوارحهم لعبادة الله سبحانه وتعالى، وتكميل شخصياتهم في ضوء التفاعل مع رسالتهم.

وبالرجوع للوصية سنجد في القسم الأول منها، تحديدًا دقيقًا للعقيدة التي ينطلق منها الإمام الحسين عليه السلام، فهو لم ينطلق من رغبة شخصية غير قابلة لتحديد اتجاهاتها وتوقع مسارها، ومن ثم مراقبتها ومحاسبتها.

والعقيدة سواء على المستوى الشخصي أو المجتمعي ضرورية لتحديد الافكار والنظريات وطبيعة الانطلاقة والإنجاز في الحياة، وأي فرد أو مجتمع خال من العقيدة، فهو يسير نحو الضياع والتيه.

ونجد في القسم الثاني تحديدًا دقيقًا لمن يجدر بهم قيادة المجتمع أو أي حركة تغييرية فيه، ومن الملفت أنه يركز على الصفات التي تجعل صاحبها غير مؤهل لقيادة المجتمع أو القيام بحركة تغييرية فيه، وهي الفساد والظلم والتعالي وسوء التقدير.

وفي القسم الثالث يرسم هدف نهضته، وهو طلب الإصلاح في بيئة حددها بشكل دقيق، وهي أمة جده رسول الله (ص) ومن ثم فهي مستمرة مع الزمن طالما بقيت هذه الأمة.

ثم في قسم رابع يحدد الطريقة والآلية التي سيتبعها، وهي بعيدة عن الإكراه أوالقهر والغلبة، إنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما مفهومان دينيان، يرتفع بهما شأن أي مجمتع وأمة تمارسهما، وعلى العكس من ذلك تنتكس المجتمعات التي تتنكر لهما.

وفي القسم الخامس، يوضح المثال والأُنموذج الذي يتطلع إليه وسيسير وفقه، وهو أُنموذج أثبت قدرته الفائقة على استنهاض قدرات الأمة وطاقاتها، وتفجير الإمكانيات الخيرة فيها.

وفي القسم السادس من هذه الوصية الخالدة، يوضح مسبقًا استجابته وردة فعله لمدى تجاوب الأمة معه، وهو على أي مستوى من التجاوب والتفاعل مع استراتيجيته يعتبر نفسه قد نجح في تحقيق رسالته وأهدافه في الحياة.

ألا تستحق منا هذه الوصية التوقف طويلًا معها؟


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *