مع الحسين في خطواته وكلماته – الخيار الثالث


من المدينة وحتى كربلاء، سار الحسين عليه السلام وهو أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يبايع يزيد بن معاوية أو يقتل.

حاول مرارًا وتكرارًا أن يهرب من الخيارين، غير أن قوة مسلحة كانت تلاحقه لإرغامه على البيعة أو القتل.

كانت هذه القوة في البداية صغيرة، تمثلت في الحماية الخاصة بالوالي، ثم تصاعدت إلى ألف فارس مسلح ساقته إلى كربلاء، وهناك تضخمت هذه القوة إلى ثلاثين ألفاً على أقل التقادير، ولا زال الخياران هما هما.

حاول سلام الله عليه أن يفتح الحل أمام خيار ثالث يجنب الأمة الوقوع في وصمة *الأمة التي قتلت ابن بنت نبيها*، لكن آذان المتربعين على الحكم كانت صماء وعيونهم عمياء، لم يروا سوى البيعة أو القتل، مع أن الحسين عليه السلام كان رافضًا لبيعة يزيد منذ عشر سنين، حين أراد معاوية فرضها على الأمة، ولم يجعل الحسين أمام خيارين.

ألم يوجد خيار ثالث، كان يمكن لأصحاب القرار تجريبته تجنبًا لإراقة دماء أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، الذين نزل فيهم القرآن الكريم وأعلن طهارتهم ونزاهتهم، وأكد على مودتهم؟

بلى كان يمكن ذلك، وكانت هنالك عدة خيارات، غير أن عقلية الاستبداد والطغيان والتنكر لقيم الأمة ورسالتها، أوصل إلى النتيجة الكارثية، التي انتهت بقتل الحسين بن علي عليه السلام وولده، حتى الرضيع منهم، وإخوانه وبني أخيه الحسن وبني عقيل، وجميع من التحق به من الصحابة والتابعين والأحرار والموالين، وفوق ذلك حرقوا الخيام على رؤوس بنات علي وفاطمة والنساء وروَّعوا الأطفال، وسحقوا جثث الشهداء بحوافر الخيول، بحسب الأوامر الصادرة إليهم من أعلى سلطة، حيث كتب عبيد الله بن زياد لقائد الجيش عمر بن سعد:
“أمّا بعدُ، فإنّي لم أبعثك إلى حسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنّيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندي شافعاً، انظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليّ سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثّل بهم فإنهم لذلك مستحقون، فإن قُتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنّه عاقٌّ مشاقٌّ قاطع ظلوم، ولستُ أرى في هذا أن يضرّ بعد الموت شيئاًً، ولكن عليّ قول لو قد قتلته فعلتُ هذا له! فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا”

لقد كان الخيار الثالث مطروحا في أول يوم أعلن فيه الحسين عن رفضه لبيعة يزيد حين كان في المدينة المنورة، فقد قال له أخوه محمد بن الحنفية:
“إني أريد أن أشير عليك برأيي فاقبله مني.
فقال له الحسين (عليه السلام): *قل ما بدا لك*!
فقال: أشير عليك أن تنجي نفسك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت…
فقال له الحسين (عليه السلام): *يا أخي! إلى أين أذهب؟*.
قال: اخرج إلى مكة فإن اطمأنت بك الدار فذاك الذي تحب وأحب، وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن، فإنهم أنصار جدك وأخيك وأبيك، وهم أرأف الناس، وأرقهم قلوبًا، وأوسع الناس بلادًا وأرجحهم عقولًا، فإن اطمأنت بك أرض اليمن وإلا لحقت بالرمال وشعوب الجبال، وصرت من بلد إلى بلد، لتنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم بينك وبين القوم الفاسقين.
 فقال له الحسين عليهالسلام: *جزاك الله يا أخي عني خيرا، لقد نصحت وأشرت بالصواب، وأنا أرجو أن يكون إن شاء الله رأيك موفقا مسددا، وإني قد عزمت على الخروج إلى مكة*.

وكان الخيار الثالث كذلك مطروحًا في أول مواجهة بين الحسين والقوة العسكرية التي كان يقودها الحر بن يزيد الرياحي، فقد قال لهم سلام الله عليه:
” *وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين اِنْصَرَفْتُ عنكم إلى المكانِ الذي جئتُ مِنه إليكم*”.

وأيضًا كان مطروحًا قبل بدء المعركة، حيث قال الحسين في خطبته الاولى:
 ” *أيها الناس: إذا كرهتموني فدعوني انصرف عنكم إلى مأمن من الأرض*”.
فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمّك؟ فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحب، و لن يصل إليك منهم مكروه.

فقال ( عليه السلام ) : *أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل، لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، و لا أفرّ فرار العبيد، عباد الله إني عذت بربّي وربّكم أن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كل متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب*.

ولما وجد الحسين عليه السلام، أنهم يستهدفون إذلاله وإذلال كل القيم التي ورثها من الرسالات السماوية كافة، قال في خطبته الثانية:
” *ألا وإنّ الدعي بن الدعي ـ يعني ابن زياد ـ قدْ ركز بين اثنتين، بين السلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحُجور طابت وحجور طهرت، وأُنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر*”

ولم يكن الخيار الثالث مرفوضًا لأن الإمام الحسين (ع) هو من حاول أن يفتح بصيص نور بشأنه، بل حتى حين تقدم قائد جيش عدوه بمقترح مشابه، افترى فيه كذبًا على الإمام الحسين قولا لم يقله، ايضا لم يقبل منه، فقد كان الغرور غشاء غليظا على العيون والاذان والعقول.

ذكرت مصادر تاريخية ان عمر بن سعد كتب إلى ابن زياد:
أما بعد؛ فإن الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة؛ فهذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو نسيره إلى ثغر من الثغور فيكون رجلاً من المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم أو أن يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه _ وهذا افتراء واضح _ وهذا لكم رضى وللأمة صلاح.
فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب ناصح لأميره مشفق على قومه.
لكنه في نهاية المطاف رفض مقترح قائد جيشه، ولم يقبل إلا بقتل الحسين عليه السلام، فكان ما أراد، ولم يستسلم له الحسين عليه السلام.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *