مع الحسين في خطواته وكلماته – العقيدة القتالية بين الحسين وعدوه


كان الحسين عليه السلام حريصًا على ألّا تصل الأمور بينه والسلطة القائمة للقتال، وقد استعمل مهاراته القيادية في التأثير على أطراف السلطة التي واجهته لتأجيل أو تغير معادلة البيعة أو القتل، وحاول الاستفادة من الوقت لإمكانية ابتكار خيار ثالث، لا ينتهي بكارثة عظمى، تتمثل في قتل سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد استطاع الخروج من المدينة بسلام برفقة أهل بيته، كما أنه لم يمنح الفرصة لاغتياله في مكة بعد أن علم بوجود مخطط لذلك، فأضطر لترك الحج في يوم التروية متوجها إلى الكوفة بناء على رسائل وصلته من أهلها يطلبون منه القدوم، مضافا الى حاجته إلى بيئة آمنة ومتفهمة لرفضه لبيعة يزيد.

لكن ابن زياد الوالي الجديد للكوفة أرسل جيشًا مكونًا من ألف فارس يقوده الحر بن يزيد الرياحي يحول دون دخول الحسين للكوفة ولقاء من راسله من أهلها.

وقد وصل هذا الجيش إلى حيث خيم الحسين عند جبل ذو حسم، وكان الوقت ظهرًا وقد أنهك الجيش من العطش، فطلب الحسين من أصحابه أن يسقوا جيش الحر الماء، بل ويرشفوا خيولهم، وهذا الموقف كان له بالغ الأثر على الحر وجماعة من جيشه.

قال الحسين (عليه السّلام) لجيش الحر وهو واقف بينهم خطيبًا:
” *أيّها النّاس، إنّي لم آتِكم حتّى أتتني كتبُكم وقدمِتْ عليّ رُسُلُكُم أنِ اقدم علينا؛ فإنّه ليس لنا إمام، لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهُدى والحقِّ. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئنُ إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين اِنْصَرَفْتُ عنكم إلى المكانِ الذي جئتُ مِنه إليكم* “.

وبعد أن صلّى الإمام (عليه السّلام) بهم العصر خاطبهم مجددا بقوله: ” *أمّا بعد، فإنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله تكونوا أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمّد، وأولى بولاية هذا الأَمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرينَ فيكم بالجوْرِ والعدوانِ، وإنْ أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم، وقدمت به عليَّ رُسُلُكُم انصرفت عنكم* “

فقال له الحرّ: أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر.

فخاطب الحسين (عليه السّلام) أحد أصحابه: ” *يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللّذين فيهما كتبهم إليَّ* “.
فأخرجَ خرجين مملوءين صُحُفاً فنُثرت بين يديه.
 فقال له الحرّ: إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمِرْنا إذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتّى نُقدِمَكَ الكوفة على عبيد الله.
فقال له الحسين (عليه السّلام): ” *الموت أدنى إليك من ذلك* “.
ثمّ قال لأَصحابه: ” *قوموا فاركبوا* “. فركبوا وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: ” *انصرفوا* “. فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، و لوح الحر بالقتال، فرد الحسين عليه السلام، في ما ذكر عنه من شعر يعكس عقيدته القتالية:

*سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى*
*إذا ما نوى حقًا وجاهد مسلمًا*
*وفادى الرجال الصالحين بنفسه*
*وخالف مثبورًا وفارق مجرما*
*فإن عشت لم أندم وإن مت لم ألم*
*كفى بك ذلًا أن تعيش وترغما*

وكان زهير بن القين متحمّساً لقتال جيش الحرّ قبل أن يأتيهم المدد من قوات بني أُميّة، فقال للحسين (عليه السّلام): «إنّ قتالهم الآن أيسر علينا عن قتال غيرهم»، ولكنّ الإمام (عليه السّلام) رفض هذا الرأي؛ لأنّ القوم لم يعلنوا حرباً عليه بعد، وما كان ذلك الموقف النبيل إلاّ لما كان يحمله الإمام من روح تتسم بالتسامح وجعل خيار القتال اخر الخيارات، للدفاع عن نفسه وأهل بيته واصحابه.
 فقال (عليه السّلام): ” *ما كنت لأبدأهم بقتال* “

وحين وصل الحسين إلى كربلاء وتمت محاصرته من عمر ابن سعد الذي جاء باربعة آلاف مقاتل، قيل ان وجهة هذا الجيش كانت في الأصل إلى الري، فلما طلب منه ابن زياد أن يذهب لمقاتلة الحسين رفض عمر بن سعد في البداية هذا الطلب، ولكن ابن زياد هدده -إن لم ينفذ أمره- بالعزل وهدم داره وقتله، وأمام هذا التهديد قبل التوجه لقتال الحسين، وهذا مؤشر يعكس العقيدة القتالية لعمر بن سعد وقيادات الجيش الذي واجه الحسين عليه السلام.

وذكرت بعض المصادر، ابن سعد وعد بأن تكون له ولاية الريّ، فقال له ابن زياد: “أرجع إلينا عهدنا”، فقال له عندما رأى أنّه قد يفقد ولايته على الري: دعني أُفكِّر.. أمهلني ليلة.
وقالوا قضى الّليل كلّه وهو يتقلَّب على فراشه، يقلِّب الأمور، يفكِّر في الحسين وعظمة الحسين وقرابة الحسين منه، ويشعر بخطورة قتل الحسين، ويفكِّر في الجانب الثَّاني بملك الريّ، والزعامة والسلطة والمال وغير ذلك، فيجذبه ذلك إلى أن يقبل، وحسم قراره في شعر نقل عنه:
فوالله ما أدري وإنِّي لحائرٌ أُفكِّر في أمري على خطرينِ

أأترك مُلْكَ الرّيِّ والرّيُّ منيتي أم أرجع مأثوماً بقتلِ حسينِ

يقولون إنَّ الله خالق جنّة ونار وتعذيب وغلّ يدينِ

فإنْ صَدَقوا فيما يقولون إنَّني أتوبُ إلى الرَّحمن في سنتينِ.

وقد حاول الحسين أن يثني عمر بن سعد عن خيار القتال وفتح له خيارًا آخر، فقد استدعاه للحوار قبل القتال، وقال له :
*وَيْحَكَ أَما تَتَّقي الله الَّذي إِلَيْهِ مَعادُكَ ؟ أَتُقاتِلُني وَأَنَا ابْنُ مَنْ عَلِمْتَ ؟ يا هذا، ذَرْ هؤُلاءِ الْقَوْمَ وَكُنْ مَعي، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ لَكَ مِنَ اللهِ*.

 فقال له عمر : أخاف أن تهدم داري! فقال الحسين (عليه السلام): *أَنَا أَبْنيها لَكَ* ! فقال عمر: أخاف أنْ تُؤخذ ضيعتي ! فقال (عليه السلام): *أَنَا أُخْلِفُ عَلَيْكَ خَيْراً مِنْها مِنْ مالي بِالْحِجازِ* . فقال: لي عيال أخاف عليهم ! فقال: *أَنا أَضْمَنُ سَلامَتَهُمْ* . ثمّ سكت فلم يجبه عن ذلك ، فانصرف عنه الحسين (عليه السلام) وهو يقول: *مالَكَ ، ذَبَحَكَ اللهُ عَلى فِراشِكَ، سَريعاً عاجِلاً، وَلا غَفَرَ لَكَ يَوْمَ حَشْرِكَ وَنَشْرِكَ، فَوَاللهِ، إِنّي لأََرْجُو أنْ لا تَأْكُلَ مِنْ بُرِّ الْعِراقِ إِلاّ يَسيراً* .

وهكذا يتضح الفارق بين عقيدة الحسين القتالية التي تعكس الشرف والنبل والدفاع عن القيم الدينية والإنسانية، وعقيدة أعدائه المبنية على مزيج من الخوف والطمع والمصالحهم الشخصية النجسة.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *