مع الحسين في خطواته وكلماته – بين الجنة والنار


الاعتقاد بالجنة والنار ليست عقيدة خاصة بالحسين عليه السلام، بل إن كل مسلم ومسلمة، بل كل معتقد بالرسالات السماوية التي نزلت على الأنبياء والرسل، يعتقد بوجود جنة ونار في الحياة الآخرة، و هما فقط مصير الناس بعد هذه الحياة الدنيا التي نعيشها، فإما الدخول إلى الجنة حيث النعيم أو السوق إلى النار حيث العذاب العظيم، وهذا الاعتقاد هو القوة الدافعة عند الكثيرين من الناس للإقدام على الأعمال الخيرة والابتعاد عن الشرور، والتحلي بالفضائل والانتهاء عن الرذائل.

وعلى أساس من ذلك، يفترض أن الذين أقدموا على قتل الحسين عليه السلام، يختلفون معه في الإيمان بوجود جنة أو نار في الآخرة، فيمكن تفهم الخلفية الأيديولوجية التي تحركهم لقتل ابن بنت آخر الأنبياء والمرسلين، وسبط الذي أخرج الناس في منطقته العربية من ظلمات الجهل والتخلف والتبعية، إلى حيث العلم والتطور والأمة القادرة على صياغة حضارتها المتميزة.

غير أن المتابع لكلمات الحسين عليه السلام وكلمات قاتليه، يجد أنهم أيضًا يقولون بوجود نار في الآخرة، الأمر الذي يكشف عن خلل في بنائهم الشخصي، حيث التناقض بين ما يقولون وما يفعلون، وهو خلل خطير لأي شخص يصاب به، حيث يناقض المرء نفسه.

نقل أصحاب المقاتل عن يوم عاشوراء، أن رجلًا من جيش ابن سعد يقال له ابن حوزة، تقدم ناحية معسكر الحسين (ع) فقال: أفيكم حسين؟
فسكت الحسين (عليه السلام)، فقالها ثانية، فسكت، حتى إذا كانت الثالثة، قال (عليه السلام): ( *قولوا له: نعم، هذا حسين فما حاجتك؟*)
قال: يا حسين، أبشر بالنار.
قال عليه السلام: ( *كذبت،‌ بل أقدم على رب غفور، وشفيع مطاع، فمن أنت*)؟
قال: ابن حوزة.
فرفع الحسين (عليه السلام السلام) يديه وقال: ( *اللهم حزه إلى النار*).
فغضب ابن حوزة، فذهب ليقحم إليه الفرس، فعلقت قدمه بالركاب وجالت به الفرس فسقط عنها فانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقي جانبه معلقاً بالركاب.

كما نقل أن شمرًا حين رأى أن الحسين أمر أنصاره بحفر خندق يحوط الخيام وأضرمت فيه النيران لكي لا تقتحم من مختلف الجهات وإنما تكون المواجهة من جهة واحدة -وهو تكتيك عسكري نظرًا لقلة عدد المقاتلين معه ووجود أسرته وعياله- نادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته: يا حسين! تعجلت بالنار قبل يوم القيامة! فقال الحسين (عليه السلام): ( *من هذا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن!*) قيل:
نعم، فقال (عليه السلام): ( *يا ابن راعية المعزى، أنت أولى بها مني صليا*) .
ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين ( عليه السلام ) وقال: ( *أكره أن أبدأهم بقتال*) .

لقد كان الحسين عليه السلام يدرك جيدًا أن من يقاتله ليس له مصير إلا النار، فكان يحذر من يتخلف عنه حين علم أن القوم صمموا على قتله، وأن فرصة وجود خيار آخر يبعد القتل عنه قد انتهت، كان يحذرهم من سماع نداءاته بالنصرة واستغاثاته بحماية من بقي من عترة النبي (ص).

قالَ أبو مِخنَفٍ أنَّ الحُسَينَ بنَ عَلِيٍّ عليه السلام في مسيره إلى كربلاء رأى فسطاطًا فقالَ : لِمَن هذَا الفُسطاطُ؟ فَقيلَ : لِعُبَيدِ اللّه ِ بنِ الحُرِّ الجُعفِيِّ ، قالَ 🙁 *اُدعوهُ لي*) ، وبَعَثَ إلَيهِ، فَلَمّا أتاهُ الرَّسولُ، قالَ: هذَا الحُسَينُ بنُ عَلِيٍّ يَدعوكَ.
فَقالَ عُبَيدُ اللّه ِبنُ الحُرِّ: إنّا للّه ِِوإنّا إلَيهِ راجِعونَ، وَاللّهِ ما خَرَجتُ مِنَ الكوفَةِ إلّا كَراهَةَ أن يَدخُلَهَا الحُسَينُ وأنا بِها، وَاللّه ِما اُريدُ أن أراهُ ولا يَراني، فَأَتاهُ الرَّسولُ فَأَخبَرَهُ، فَأَخَذَ الحُسَينُ نَعلَيهِ فَانتَعَلَ، ثُمَّ قامَ فَجاءَهُ حَتّى دَخَلَ عَلَيهِ، فَسَلَّمَ وجَلَسَ، ثُمَّ دَعاهُ إلَى نصرته، فَأَعاد إلَيهِ ابنُ الحُرِّ تِلكَ المَقالَةَ .
فَقالَ: ( *فَإِن لا تَنصُرنا فَاتَّقِ اللّه َ أن تَكونَ مِمَّن يُقاتِلُنا، فَوَاللّه ِ لا يَسمَعُ وَاعِيَتَنا أحَدٌ ثُمَّ لا يَنصُرُنا إلّا هَلَكَ.*)
قالَ: أمّا هذا فَلا يَكونُ أبَدًا إن شاءَ اللّه.
وجاء في مصدر آخر أن الحسين عليه السلام قال له: ( *إّني قد سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من سمع داعيةَ أهل بيتي، ولم ينصرهم على حقّهم، إلّا أكبّه الله على وجهه في النار.*)

وفي ذات الطريق التقى عمرو بن قيس المشرفي، الذي يقول، دخلت على الحسين بن علي، أنا وابن عم لي وهو في قصر بني مقاتل فسلمنا عليه فقال له ابن عمي: يا أبا عبدالله هذا الذي أراه خضاب أو شعرك؟ فقال، عليه السلام: ( *خضاب، والشيب إلينا بني هاشم يعجل*) ثم أقبل علينا فقال: جئتما لنصرتي؟ فقلت له:
أنا رجل كبير السنّ، كثير الدين، كثير العيال وفي يدي بضائع الناس ولا أدري ما يكون وأكره أن تضيع أمانتي، وقال له ابن عمي مثل ذلك.
 فقال عليه السلام، لنا:

( *فانطلقا فلا تسمعا لي واعية ولا تريا لي سواداً فإنه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يغثنا كان حقاً على الله عزّ وجل أن يكبه على منخريه في النار*).

لقد كان الحسين عليه السلام، يؤكد على عقيدة الإيمان بالجنة و النار في الآخرة، ولذلك أثبتها في وصيته قبل خروجه من المدينة ( *وأن الجنة حق والنار حق*)، كما أنه كان يذكر الناس بها في مختلف محطات رحلته إلى شهادته، وقد ذكرت لنا بعض المصادر أنه حين وصل إلى الثعلبية أتاه رجل وسأله عن قوله تعالى «يوم ندعو كل أناس بإمامهم» فقال (ع): ( *إمام دعا إلى هدى فأجابوا إليه وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوا إليها، هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، وهو قوله تعالى: ( فريق في الجنة وفريق في السعير*)

وهذا التذكير والتوعية منه بالمصير الأخروي لم يذهب سدى، فهذا قائد الجيش الذي حاصره وجعجع به ومنعه من الرجوع إلى المدينة أو إلى أي مكان آمن – بناء على أوامر عبيد الله بن زياد – هذا هو الحر بن يزيد الرياحي يراجع نفسه في حسم مصيره الأخروي بين الجنة والنار، وكيف له أن يدخل جنة وهو يشارك في قتل سيد شبابها؟
تقدم الحر لعمر بن سعد وسأله عن جديته في قتال الحسين (ع)، فأكد له، أن هذه هي الأوامر ولا مجال للتراجع عنها، فأخذته الرعشة والاضطراب، فسار نحو المشرعة وهو مُطرق برأسه فلحق به المهاجر بن أوس عندما رآه مُطرقاً مُفكِّراً، قائلا له: إن أمرك لمريب، والله لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك فما هذا الذي أراه منك؟
فقال له الحر: إني أخيِّرُ نفسي بين الجنة والنار
والله لا أختار على الجنة شيئاً ولو اُحرقت، ثم توجّه نحو الحسين (عليه السلام) مُنكّساً رأسه حياءً منه، وقال:
إني تائب فهل ترى لي من توبة؟
فأجابه الإمام الحسين (عليه السلام): ( *نعم يتوب الله عليك*)
 فقاتل دفاعا عن الحسين عليه حتى استشهد بين يديه، فقال له: ( *أنت حرٌ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة*).


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *