هل وجود مركز للاستشارات النفسية والأسرية ضرورة؟


ورقة الشيخ عبد المجيد العصفور، 14/3/2006م.

هل وجود مركز للاستشارات النفسية والأسرية ضرورة؟
هذا السؤال الذي وجه الي من قبل جمعية التوعية الإسلامية وهي بصدد التفكير في إنشاء مركز يهتم بتوجيه الإرشاد النفسي والأسري للأفراد والأسر، باعتبار ذلك جزء من رسالتها وأهدافها الدينية التي تتطلع لإصلاح النفوس والمجتمع.إذ من المنطقي أن إصلاح الأسر بحاجة إلى إصلاح النفوس أولا وإصلاح المجتمع لابد أن يسبقه إصلاح للأسر المكونة له.

‘,’

أولا: التجربة الشخصية
مع نهاية مارس 1989ميلادية هاجرت إلى الدنمارك، وهناك بدأت بالأنشطة الدينية التقليدية لأي خريج حوزوي، صلاة الجماعة ثم صلاة الجمعة، تربية الشباب، أجراء عقود الزواج، إصلاح ذات البين، إصدار وثائق الطلاق، الخطابة الحسينية، تأسيس مراكز حسينية وثقافية واجتماعية، كمؤسس أو مشارك مع الآخرين، المشاركة مع بقية المسلمين في الشأن العام الذي يهم كافة المسلمين المتواجدين في الدنمارك.
هذا الوضع سمح لي بالتداخل مع اغلب الجاليات المسلمة المتواجدة في الدنمارك، وتركز مع الجاليات العربية بشكل خاص، مما اتاح لي التعرف على نوعيات جديدة من المشاكل لم أكن اعهدها من قبل.
وبغية التطوير الذاتي بما يساهم في فهم أعمق للحالات النفسية والمجتمعية والثقافية بحثت عن تخصص دراسي أكاديمي، يكمل الخلفية الدراسية الدينية، وقد وفقت إلى ذلك، وحصلت على بكالوريوس فلسفة وعلم نفس، بضميمة الدراسة الاجتماعية.
قادتني معالجة إحدى المشاكل الزوجية، للتعرف على المركز النفسي الذي كان بدوره يعالج الاضطرابات النفسية التي تمر بها أطراف المشكلة، وقدم هذا المركز عرضا لبلدية كوبنهاجن يبدي فيه حاجته لأن أكون مستشارا دينيا في المركز، ثم معالجا نفسانيا بعد تجاوز دورة في العلاج النفسي لمدة سنة ونصف. على أن تتكفل البلدية بنفقات الدورة.
وبعد أكمال الدورة عملت بالفعل كمستشار ديني ومعالج نفساني للاضطرابات النفسية والأسرية.

وقد منحتي الممارسة خبرة في علاج المشاكل النفسية والأسرية التي كانت تمر بها الأسر المسلمة في الدنمارك وسمح لي ذلك بان أساهم في الحفاظ على الكثير من الأسر التي كانت تراجع المركز، وان أقدم لها الحلول الدينية عوضا عن ما كان يمكن أن يقدم لها من حلول حسب الطريقة الدنمركية البعيدة جدا عن الرؤية الدينية.
لقد انفتحت الأسر المسلمة المهاجرة إلى الدنمارك على نمط حياة، صنع بداخلها \”سيما الجيل الجديد\” ثقافتين متضادتين، وهو ما أدى إلى بروز توترات نفسية وأسرية، نجم عنها في بعض الصور تفكك اسري مريع.
إضافة إلى ما كان يعانيه المهاجر اصلا من توترات نفسية بسبب تأثيرات الغربة ومحاولات التكيف مع شروط البيئة الجديدة. وإذا قدر للبعض النجاح في التغلب على هذه التوترات، فان آخرين تطورت لديهم لدرجة الاضطراب، والبعض قدم أصلا إلى الدنمارك وهو كان يحمل معه الاضطرابات النفسية للأوضاع الغير سوية في البلدان التي قدموا منها.
تكونت لدي خبرة في علاج الاضطرابات النفسية والمشاكل الزوجية، من خلال كل ذلك، فقررت حين عودتي البحرين في عام 2002م ميلادية أن افتح مركزا يهتم بعلاج الاضطرابات النفسية والمشاكل الأسرية، وتم ذلك بالفعل غير أني وجدت أن المسالة أكبر من قدرة فرد على استيعابها، بل هي تحتاج إلى جهود مجتمعية كبيرة تتضافر فيها الجهود، وتتعاون فيها كافة الأطراف ويكون للدين فيها الدور الكبير في الرعاية والتوجيه. وجمعية التوعية الإسلامية كجمعية نشطة في مجال خدمة المجتمع، أرى أنها معنية وجديرة بفتح مثل هذا المركز، إن لم اقل المراكز، فالمشكلة تتطلب انتشارا أوسع للمراكز لاستيعابها.
لقد أفادتني خبرتي في مجال العلاج النفسي، أن الوعظ العام في وسط الناس من خلال منبر الجمعة أو المحاضرات الدينية والمجالس الحسينية، حسن في مجال صناعة حالة عامة من الوعي، لكنه لا يغني أبدا ولا يعالج المشاكل والأزمات النفسية والزوجية والأسرية، بل قد يساهم الوعظ الزجري والـتأنيبي، في انتكاسات نفسية وأسرية.
الأمر الذي يعني ضرورة وجود المراكز الإرشادية لتكتمل دورة الوعظ الديني العام، وغير ذلك فقد نكون من الذين يهدمون نتائج وعظهم من حيث لا يشعرون.

ثانيا:ضرورة المركز
تكتسب أهمية افتتاح مركز للإرشاد النفسي والأسري أهمية خاصة خلال الوقت الراهن، بل يمكن القول أننا كمؤسسات دينية متأخرون كثيرا، في هذا الأمر وقد سبقنا إلى ذلك الناشطون في المجال الديني من إخواننا السنة في الكويت والبحرين مؤخرا.
من الناحية الدينية الصرفة يعد الإرشاد النفسي والأسري من مصاديق \”ومن أحياها فكأنما احي الناس جميعا\” إذ أن الإرشاد والمعالجة النفسية تساعدان الإنسان للعودة إلى واقعيته، ومزاولة حياته بشكل متزن، وهو ما يدعو إليه الدين الحنيف، أضف إلى أن الإرشاد النفسي والأسري يساهم بشكل كبير في إصلاح ما فسد من العلاقات الزوجية والتي ينذر انهدامها بالكثير من المشاكل التي يتضرر بها دين الإنسان بالدرجة الأولى ووقوع النشء في تيار الانحراف والإجرام، وحسب الدراسات التي تهتم بموضوع الشباب، التي تناولت عينة ما سمي بشباب حدث شارع المعارض، أظهرت أن نسبة لا يستهان بها من هؤلاء انحدروا من اسر مفككة.
والإسلام يهتم بشكل كبير بإصلاح العلاقة بين الزوجين، والآيات القرآنية تؤكد على ضرورة المبادرة للإصلاح \”فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما\” وفي الروايات أن عليا عليه السلام إبان حكمه كان يسعى في الإصلاح بين الأزواج، أضف إلى ذلك ما لدينا من روايات كثيرة تعظم الثواب لمن سعى للإصلاح بين زوجين متخاصمين.
وكذلك تؤكد الحاجة المجتمعية على ضرورة المبادرة لإنشاء هذا المركز، فالوضع من الناحية النفسية والأسرية مقلق جدا، ويبعث على الكثير من التأمل لإيجاد حلول سريعة قبل الانحدار في مستنقع الانحلال، وهو ما سيخلق مجتمعا لا أباليا، لا يلتزم بدين ولا قانون ولا عرف إنساني.
فقد وصلت نسبة الطلاق إلى 34% من إجمالي حالات الزواج، بينما كانت 30% في عام 2002م، وقد كانت 15% في عام 1994م. و واضح أن نسبة الطلاق ارتفعت أكثر من الضعف في عقد من الزمن، وهو ما يعكس أن المجتمع لم يوفر المعالجات المطلوبة للوقاية من شر التفكك الأسري.
وتشير الإحصائيات إلى ارتفاع معدل العنوسة في المجتمع البحريني، إذ وصلت الى20% وهو ما يضيف إلى المجتمع توترات إضافية ويؤثر بشكل كبير على المستقبل الديني في هذه المملكة، إن الزواج يوفر قاعدة كبرى لتزكية المجتمعات من الكثير من الآفات، يقول تعالى:\”ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون\” و في النبوي الشريف \”من تزوج فقد أحرز نصف دينه\”. وفي الروايات نهي شديد عن الامتناع عن الزواج والتزويج، وليس سرا إذا ما كشفت أن العانس رجلا كان أو امرأة يعاني بصمت ويبوح في العيادات النفسية عن اضطراب نفسي شديد يخرجه عن حد السواء وان التدين قد يتحول إلى حيلة دفاعية نفسية عنده للتعويض عن نقص حاجة فطرية لديه.
وهنا لا أنسى تلك الشابة المتدينة المتبتلة التي لازمها شعور فضيع أن رغبة داخلية عارمة تنتابها للتبول على القرآن الكريم، والعياذ بالله.
إلى ذلك أشارت صحيفة محلية في تحقيق عن الدعارة:\”تشير الإحصاءات إلى أن البحرين يوجد فيها حوالي 40 مبنى سياحي، متوسط عدد الشقق فيها 23 شقة، ويبلغ متوسط إيجار الشقة عشرين دينارا لليلة الواحدة ومع الأسف _ حسب الصحيفة _ فان الكثير منها يستغل للدعارة تحت لافتة السياحة\”
أما عن المخدرات وهي من ابرز المؤشرات التي تكشف عن ضعف التوجيه النفسي والأسري في أي مجتمع فقد أشارت دراسة:\”أن عدد قضايا المخدرات قد زاد بنسبة 61% خلال العام الأخير (كان ذلك عام 2004م) وقد حذرت الدراسة من الأضرار الكبيرة التي ستنجم عن تفاقم هذه الظاهرة\”. والحق أن المخدرات هي طريق اللا سواء الذي يقع فيه البعض، ولا يجدون ما يكفي من توجيه نفسي وأسري.
وهنا أيضا تلزم الإشارة إلى حجم العنف الأسري المتفشي في هذا المجتمع الصغير، فقد وصل إلى مستوى عال جدا، يعادل ما وصل إليه في مجتمعات كبرى كبريطانيا وفرنسا، وهي نسبة 30%، وبعض صور هذا العنف بشعة جدا تتقزز منها الأبدان، فهنالك زنى المحارم، واغتصاب أطفال صغار، وربما ما لم يكشف عنه أعظم، ولو قدر لدراسات جريئة أن تخترق المستور لكشفت عن ما كشفت عنه دراسة دنمركية عن أمهات يجبرن أولادهن المراهقين على الممارسة الجنسية معهن تحت التهديد.
أقول ذلك لأني اصدم أحيانا حين اسمع عن تداول لأفلام إباحية في وسط النساء المحافظات، أو تشجيع بعض الأزواج لزوجاتهن على مشاهدة هذه الأفلام لإمتاعهم بطريقة جديدة، وبعض الحالات التي تمر علي تكشف عن شذوذ من هنا وشذوذ من هناك، وهو ما يجعل من مثل هذه المراكز ضرورة ملحة. فقد يلجا البعض إلى هذه الوسائل لانعدام التوجيه النفسي والأسري الذي توفره مثل هذه المراكز.
ولم الحظ اهتماما يمكن أن يشاد به لدى الصناديق الخيرية المتحمسة لتنظيم مهرجانات الزواج الجماعي، بالإرشاد النفسي والأسري، فيزوجون مئة ليتفرخ بعد عام أربعة وثلاثون مضطربا نفسيا.
ومع أن تجربتي محدودة بشأن لفت نظر الصناديق الخيرية لذلك إلا أنها كشفت عن عدم وعي بقيمة الإرشاد النفسي لدي قطاع كبير من المجتمع. الأمر الذي يؤكد ضرورة أن تتصدى جهة دينية مؤسسية للتوعية والتثقيف باتجاه ثقافة الاستشارة، وأن تفرغ مجموعة من المختصين، يعالجون الحالات الفردية أولا بأول.

ثالثا:التأثير الحضاري
تؤكد الدراسات النفسية أن جزء كبيرا من الإصابات النفسية يرجع إلى نمط الحياة المتزايد في التغيير جيلا بعد جيل، وسرعة عجلة هذا التغير تطحن الكثير من النفوس والأسر، سيما إذا كان التغيير قادما من خارج المنظومة المعرفية التي تشكل العادات والتقاليد وأنماط الحياة السائدة في المجتمع، والحال الذي نعيشه اليوم أن أنماط حياة خارجية تفرض على مجتمعاتنا، وهي أنماط نابعة من الحضارة المهيمنة في هذه اللحظة التاريخية، وهي الحضارة الغربية، القائمة على المادة وجودا وإنتاجا وعدما، غير أن هذه الحضارة أوجدت لها صيغا تتماشى ومرتكزاتها المعرفية البعيدة عن الأديان. وليس في مقدورنا أن نأخذ بهذه الصيغ لتعارضها الصريح مع ديننا الإسلامي الحنيف ،المشكل الأساس \”هكذا يفترض\” لأنماط حياتنا وعاداتنا وتقاليدنا، بل وحتى للهونا على حد تعبير أحد علمائنا.
مثال ذلك: العلاقة بين الجنسين، فالغرب الذي منع التعدد، وأثار شهوات شبابه، وسمح بالاختلاط، وأجاز أفلام الإغراء، وشرع نشر الممارسة الجنسية المصورة في الفضائيات، هذا الغرب لم يمنع الممارسة الجنسية بين بناته وشبابه لا قانونيا ولا عرفيا، ولم يجرم المومسات بل فرض عليهن ضريبة كأي عمل أخر.وانشأ مؤسسات اجتماعية تستوعب المتضررين من الآثار السلبية لهذا النمط من الحياة، فهنالك بيوت المطلقات، وهنالك بيوت للهاربين من أبويهم، وهنالك مؤسسات اجتماعية وعيادات نفسية تشرف على معالجة هؤلاء المتضررين ليعودوا إلى توازنهم النفسي، ومن ثم ينخرطون مجددا في الحياة.
أقول بالتأكيد إننا لن نستطيع أن نسير على الطريقة الغربية، ولا يبدو أننا قادرون على الاستغناء عن منتجاتهم، ولا بد أن نتوقع سقوط الضحايا الكثيرين منا جراء تأثير منتجاتهم هذه، ومن السذاجة أن نتوقع بقاء الأسر على حالتها التقليدية التي أرادها لها الاسلام، حيث \”الرجال قوامون على النساء\” والتوجيه والإدارة والتخطيط للمستقبل في الأسرة بيده.
كل ذلك يوجب علينا التوجه نحو تشكيل صيغ تستوعب نتائج التأثير الحضاري الغربي، وما مشاريع المراكز الاستشارية، إلا إحدى هذه الصيغ التي يمكن لنا أن نقلل من خلالها تلكم التأثيرات.

رابعا:إلى من يلجأ المحتاجون
المتضررون نفسيا، والمأزومون زوجيا، والمتفككون اسريا، يبحثون عن من يأخذ بأيديهم إلى بر الأمان فإلى من يلجأ ون:
1/هناك مجموعة من الدجالين، جالسون في بيوتهم، ينتظرون من يطرق أبوابهم، ليقول لهم انه يشعر بشيء ما أو أن شريك حياته تغير عليه، أو انه يسمع همسا في أذنيه، أو أن رجلا يدعي أن زوجته ينكحها جني، أو زوجة تدعي أن زوجها مصدود عنها بفعل ساحر.. وغير ذلك.
فيأتيهم الجواب وفق حسبة ذلك اليوم، ولو جاء السائل في اليوم الثاني لدجال آخر أو للدجال نفسه، لكان الجواب شيئا آخر. المهم أن يأخذ الدجال منهم ما يملأ جيبه، ويصدهم عن الباب الذي ينبغي أن يأتوا إليه، وبعد عدة سنوات يتحول الضحية إلى حالة ميئوس منها.
أتذكر تلك الأسرة التي صرفت ما يزيد عن ستة آلاف دينار، واضطرت لبيع سكنها، وسمح الرجل المسكين للدجال بان يداعب جسد زوجته كيف ومتى وأين ما شاء، حتى في حمام السباحة، ليستخرج من داخلها الجني، وليس صعبا أن يقول بعد أن مل استلذاذا، وقل عطاؤه، وربما وجد فريسة اسمن، أن الجني يرفض أن يخرج، فعليكم أن تتعايشوا معه.

2/هنالك مشاريع حكومية تسعى لتقديم الإرشاد النفسي والأسري، ولست اعلم بعدد هذه المشاريع لكن الذي تداولته بعض الصحف أن هنالك توجه لأن يكون في كل محافظة مشروع للتوجيه النفسي والأسري، كما أن وزارة العدل كانت بصدد فتح مكتب خاص للتوفيق الأسري، للتقليل من حالات الطلاق، وهو بعد لم ير النور.

3/هنالك بعض المراكز لهذه الجمعية أو تلك يقدم إرشادا نفسيا وأسريا عاما أو يتخصص لتقديمه لصنف خاص كالمتضررين من العنف الأسري، كالذي افتتحته الدكتورة بو زبون.

4/هنالك مراكز خاصة تتقاضى أجرا، بواقع عشرين دينارا للساعة، وتضف إمكانيات كثير من المراجعين عن مواصلة المراجعة للعلاج أو الاستشارة لقلة ذات اليد.

إن مبادرة الجمعية تتميز، بوجود الغطاء والإشراف الديني الذي يوفر الأمان الشرعي للمراجعين، كما يمنع من السقوط في مطاب الاستغلال بمختلف أشكاله.

الخاتمة
ختاما اطلب من السادة العلماء أن يباركوا هذه المبادرة وأن يعينوا القائمين عليها بالتخطيط والتأييد والتسديد، كما أتوجه إلى أصحاب الخير بأن يساهموا بأكبر قدر من إمكانياتهم ليقوم هذا المركز على سوقه، ولنعلم جميعا أن مثل هذا المشروع يساهم بشكل كبير في تزكية المجتمع، والدفع به نحو الفاعلية والإنتاج والنجاح والفلاح.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *